البطل الضعيف، لا الخارق

ثقافة 2020/04/25
...

عبدالزهرة زكي
 
كان من المتوقّع مع تفشي وباء كورونا ومحنة العالم المستمرة تحت وطأته أن تحضر في الأذهان سينما البطولة الخارقة وأدوار أبطالها الخارقين القادرين في الأخير على انقاذ العالم من خطر يأتي في العادة، بكثير من الأفلام، من كوكب آخر، وقد يأتي التهديد من جماعات سرية، نازية وغيرها، تريد دمار العالم أو بعضه لتقابل التهديدَ قوةُ البطل المنقذ وشجاعته الفائقة في التغلب أخيراً ودحر الخطر.
 

واقعاً لم أتابع باهتمام هذه السينما، المرات القليلة التي تابعت فيها أفلاماً لأبطال خارقين كانت تحصل بحكم المصادفة حين أكون مع العائلة أو حين أكون بمكان لا خيار لي فيه سوى أن اشاهد ما يعرض أمامي، ما زالت تمكث في ذهني أيضاً خيالات شاحبة من البدايات المبكرة نسبياً لأفلام البطولة الخارقة، ولبطلها في مرحلة صباي وسنوات شبابي الأولى، وكان البطل حينها سوبرمان.
تكفي مشاهدة بعض أفلام هذه السينما ليفضّ الصلة بها نهائياً رجل بمثل مزاجي واهتماماتي وطبائعي. البطل في هذه الأفلام لا يموت. الحيل السينمائية ومهارات كتاب السيناريو والمخرجين في زج البطل بأخطر المواقف لا تقنع المشاهد وتفشل في إثارة مخاوفه على البطل لاحتمال موته، الفيلم مصمم لأن لا يموت البطل، لأن ينتصر في الأخير، ثيمة هذه الأفلام ومبررات انتاجها تقتضي ذلك.
قبل أيام، في ظروف الحظر وملازمة البيت، فكرت بأحوال السينما والأفلام التي لم يكتمل إنجازها بضغط انتشار المرض وإجراءات الدول للتخفيف من وطأة ما تتعرض له معظم الشعوب من كوارث، كنت حينها بصدد محاولة ملاحظة ردود أفعال وأوضاع الانتاج الثقافي، كالأعمال المسرحية وطباعة الكتب ومشكلات توزيعها ومعارض الكتاب ومعارض التشكيل والفعاليات الموسيقية والغنائية والسينما، في هذه الظروف، لقد استحوذت أخبار الرياضة والمرض على ما سواها، بينما توقعت أن قطاعات ثقافية وصناعات كثيرة فيها ستنسحق تحت تهديد المرض، لكن الرياضة ونجومها شكلوا غطاء ثقيلاً على ما يجري في حقول أخرى هي أكثر هشاشة وأشدّ قابلية للخضوع لنتائج مرض قاتل وفاشٍ مثل كوفيد 19.
لذلك وفي البحث عبر غوغل عما يعتري حقول الثقافة من أعراض هذا المرض وانعكاساته على البشر والاقتصاد والحياة صادفت مقالاً بتوقيع نوح برلاتسكي، وكان عنوانه يتساءل:" هل يقوى فيروس كورونا على أن يتهجى موت سينما الأبطال الخارقين؟"
وفعلاً فإن مقال الكاتب الأميركي، من شيكاغو، كان يتحدث بسخرية عن (محنة) سينما الأبطال الخارقين حين يقول:" يمكن لأصابع الرجل الحديدي التقاط أصابعه والقضاء على جيش غازٍ والقضاء عليه، ولكن ليس هناك ما يمكنه فعله عندما يعرّض ردُّ فعلٍ حكومي ضعيف الجمهور لوباء خطير، من المناسب صمت الأبطال الخارقين في الوقت الحالي، إنهم لم يتم تصميمهم أبداً لإنقاذنا من هذا". كان الفيلم الأول الأكثر نجاحاً لسوبرمان، مع بدء الحرب العالمية الثانية، ليس بالبعيد عما صمم البطل الخارق من أجله، ففي هذا الفيلم يتمكن سوبرمان، البطل الخارق الأول، من القبض على هتلر وستالين لتنتهي الحرب. يشير برلاتسكي لهذا الفيلم ولثيمته، ثم يعلق بأن القوة لا يمكن أن تفعل شيئاً مع هذا الوباء، كورونا، الحشود التي تقاتل في أفلام القوة الخارقة هي وسط مناسب للتدمير من قبل الفيروس، التحدي الأصوب المتاح حاليا ليس قتل الفيروس وإنما تفادي ضرره، هذا ما يتاح فقط  في الركون جانباً والصمت والخمول والعزلة وتفادي الحشود. ما هو متوقع أن المزاج لن ينسجم مرة أخرى، إن تجاوزنا محنة كورونا بسلام، مع طبيعة البطل
الخارق.. البطل الخارق نتاج للعقل الحربي المنتعش عادة في ظروف الحروب وفي تخويف الناس منها وفي التطلع لحياة أكثر سلاما واطمئنانا ما بعد 
الحرب.
لكن حياة ما بعد كورونا هي ليست حياة ما بعد حرب. عشنا أكثر من حياة ما بعد الحرب، كان الأمل والتطلع يحاولان إزاحة رعب الحرب باختلاق ثقة ولو متوهَّمة بالآتي، لكن العيش أمام خطر كورونا لم يكن حياة حرب، كما يوهمنا السياسيون في معظم البلدان بذلك، فجأة وجد البشر أنفسهم في صراع غامض من أجل بقاءٍ مهدَّد، طرف الصراع الآخر هو أيضاً يصارع من أجل البقاء. ما سيظل يقض مضاجع البشر، عند التخلص من خطر كورونا، هو الخشية التي ستبدو أشد وطأة من كورونا، الخشية من احتمال تكرار التجربة السوداء مع فيروس آخر هي ما يكرس مزاجاً قلقاً ومتحسباً وغير مطمئن لعقود، حتى أشهر قليلة كنا نتوقع ان زمن الجوائح والوباءات قد تركناه وراء ظهورنا، كان ذلك حلما جميلاً، وها نحن فجأة نستيقظ منه إنما على الكابوس.
ستكون الحاجة إلى الثقافة ولجهود المثقفين مضاعفة في العمل من أجل النأي بالعقل البشري، بعيدا عن النفق المظلم لثقافة كورونا، لا حلول لدى المثقفين والثقافة، وإن وجدت فسيدار الظهر لها، كما هو الحال بعد كل أزمة، الثقافة نفسها ستكون أشد حساسية، الثقافة هي عمل مستمر في نفق لا ينتهي.
صناعة السينما مثل غيرها قائمة على استثمار كل ما يمكن استثماره، ستكون المحنة مع كورونا موضوعاً للاستثمار لا يلبي متطلباته زيف البطولة الخارقة، سيجري تعطيل أو موت سينما البطل الخارق لتحل محلها سينما الحشود المنطوي أفرادها كلٌّ في منزله، في نوم لا يعرفون جميعاً متى تكون الإفاقة منه ممكنة. في مقال للكاتب البريطاني نيل أشرسون عما بعد كورونا يضع، هو الآخر، يتساءل فيه:" كيف سيبدو المشهد حالما نستيقظ من الكابوس؟ الأوهام والمخاوف بشأن المستقبل تحيا بالفعل معنا"، ويبدو أننا، ونحن في غمار الصدمة، لا نمتلك إلا الأسئلة وحدها، حيث لا يقين، وحيث تنعدم الثقة والاطمئنان، يذهب أشرسون في مقاله إلى أن عالماً جديداً لن يظهر، لكنه يوصي بأن نقاتل من أجل أن يكون العالم جديداً فعلاً. خاتمة المقال كانت موحية وهي تنتهي باستشهاد الكاتب ببيت من شيلي يقول فيه:" انهض مثل أسد من النوم". لن يكون هذا نهوضاً لأبطال خارقين، سيدرك البشر أنهم فعلاً بشر من خوف وشجاعة، من قوة وضعف، من أمل ويأس، ولعل معرفة الإنسان بجانبه الضعيف هي البداية الحقة لقوته، لنهضة أسود تغمض أعينها في مواجهة الشمس وتفتتح نهارها بزئير لا يخجل معه ولا يخشى من التعبير عن جوعه. .