ناظم نعيم .. وهجٌ إبداعيٌّ لا تطفئه السنين

ثقافة 2020/04/26
...

سامر المشعل
 
رحل آخر فرسان اللحنيّة العراقيّة في عصرها الذهبي في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، الملحن المبدع ناظم نعيم عن عمر ناهز 95 عاما، بعد صراع طويل مع المرض، في مدينة ديترويت التابعة لولاية ميشغان الاميركية، بهدوء بعيدا عن الاضواء الاعلامية مثلما يحلو له أن يعيش.
ناظم نعيم عقلية موسيقية مبتكرة وخلّاقة، ظهرت موهبته التلحينية في عقود الاربعينات والخمسينات والستينات من القرن الماضي، ولعب دورا كبيرا في رسم الخارطة الابداعية للاغنية العراقية، ولعل السواد الاعظم من الجيل الجديد لا يعرف هذا المبدع الكبير.
لايمكن حصر نتاج وتاريخ ناظم نعيم بهذه المساحة المحدودة، لكن سنتطرق الى ابرز نتاجاته الفذة، فلولا ناظم نعيم لما كان ناظم الغزالي، على حد وصف الفنان والباحث حنا بطرس، فقد كان ناظم نعيم وفرقته الموسيقية لصيق ورفيق ناظم الغزالي بجولاته الغنائيّة في داخل العراق وخارجه، وهو الذي لحّن له معظم أغانيه، وأكثرها عذوبة وطراوة، التي كانت جواز سفره للجمهور العربي، اذ تعرّف الجمهور العربي، على جمالية واحساس الغزالي من الألحان التي يضعها له ناظم نعيم ومنها: "يم العيون السود"، و"فوق النخل، و"طالعه من بيت ابوها"، و"احبك ولا اريد انساك"، و"شرد اقدملك هدية"، و"سلمت القلب بيدك"، ومروا عليه الحلوين"، و "تصبح على خير".. وغيرها من الاغاني.
وقد امتازت أغانيه بالنكهة البغدادية وبروح التجديد والحداثة المستمدة من التراث الغنائي العراقي، وله الفضل في اعادة تقديم الكثير من الاغاني التراثية العراقية بأسلوب عصري، وهذا سر نجاح الحانه وبقائها في الذاكرة الابداعية رغم مرور أكثر من نصف قرن على انتاجها.
كذلك قدّم الملحن الكبير ناظم نعيم مجموعة كبيرة من الالحان الى العديد من المطربين والمطربات منهم: سليمة مراد وزهور حسين وعفيفة اسكندر ونرجس شوقي ولميعة توفيق واحلام وهبي ومائدة نزهت وسعدي البياتي وفؤاد سالم وصلاح عبد الغفور وغيرهم.
 
أسرة فنيَّة
ولد ناظم نعيم في بغداد بتاريخ 1 / 7 / 1925 وعاش في أحضان أسرة فنيّة عشقت الموسيقى واحترفتها، كان والده نعيم سلمو عازف كمان مقتدر عمل طويلاً عازفاً ورئيساً في مختلف الفرق الموسيقية العراقية الرائدة، فنشأ ناظم نعيم منذ صغره في أجواء النغم، تفتحت حواسه على عوالم الموسيقى والنغم، سحرته اول الامر آلة الكمان، وراح يحرك أصابع يده الناعمة فوق اوتاره ليستخرج الاغاني الشائعة انذاك، ثم تعلّم العزف على آلة العود.. وبهذا كان والده هو معلِّمه الأول. وكذلك عمّه شاكر كان عازفاً للعود. ويأتي شقيقه الثاني عزَّت (مواليد بغداد 1931)، ليصبح هو الآخر عازف كمان قدير عمل طويلاً في مجالات الفن إذاعياً ومسرحياً. أما شقيقه الثالث، توفيق (مواليد بغداد 1934)، فإنّه اكتفى بتذوق الموسيقى وتفهُّمها وبحكم عمله مستقبلاً في مجال الصحافة، كتب الكثير من المقالات في المواضيع الموسيقية.
رحلة إبداعيَّة
عمل في دار الإذاعة العراقية في العام 1943 كعازف كمان وأسهم بشكل فاعل في تطوير التراث اللحني البغدادي وكوّن مع الشاعر جبوري النجّار والموسيقار جميل بشير "ثلاثي إبداعي"، خرجت من مواهبهم أجمل الاغاني العراقية ومعظم تراث الفنان ناظم الغزالي مثل فوك النخل، ويم العيون السود ورايحه من بيت ابوها وغيرها. هاجر ناظم نعيم الى الولايات المتحدة الاميركية في العام 1982 واستقر هو وأسرته هناك، كان يمارس العزف بين الحين والاخر، فهو يميل الى الهدوء والاستمتاع بالطبيعة والقراءة.. يزوره بعض اصدقائه وتلاميذه القريبين منه.
جرى تكريمه قبل سنوات من قبل احدى المنتديات الثقافية التي يديرها الفنان رعد بركات في الولايات المتحدة الاميركية بحضور الفنان سعدون جابر وكان هذا آخر تكريم له.ظل في ولاية ميشغان حتى رحيله يوم الاربعاء الماضي 22 نيسان 2020 تاركا خلفه إرثا غنائيا موسيقيا يفخر به العراق، وستظل الاجيال المقبلة تردده بتلذذ ونشوى.
 
نتاجه اللحني
فضلا عن ارتباطه بسفير الاغنية العراقية الاول ناظم الغزالي وتقديمه لمعظم أغانيه المميزة، فقد قدم ناظم نعيم باقة جميلة من الاغاني التي ترددت بأصوات المطربات والمطربين العراقيين ومنها على سبيل المثال: أغنية "هاي من الله قسمتي" و "عندي للولف هدية"، و"الله الله من عيونك" للمطربة احلام وهبي، وكانت الاغنية الاخيرة سببا في شهرتها.
قدم للمطربة مائدة نزهت اول أغنية لها وهي "الروح محتارة" واغنية "كالوا حلو".
قدم للمطرب سعدي البياتي أغنية "انا بيدي جرحت ايدي"، وللمطرب فؤاد سالم أغنية "اعاتب والعتب سكته" من نغم المخالف. وقدم للمطربة عفيفة اسكندر قصيدة "تعيش أنت وتبقى" وغيرها. قدم للمطربة وحيدة خليل أغنية "يايمه ذاك هواي" لتقدمها في اول حفلة لها بالاذاعة.
وقدم للمطربة اللبنانية انصاف منير أغنية "انا موبيدي اهلي ما يرضون".تزوج ناظم نعيم من المطربة نرجس شوقي وقدم لها العديد من الاغاني في خمسينيات القرن الماضي. قدم للمطرب صلاح عبد الغفور واحدة من أجمل أغانيه وهي "حلوه يا البغدادية".
عزف على آلة الكمان مع مطرب العراق الاول محمد القبانجي مرورا بالفنان ناظم الغزالي وفؤاد سالم واخر فنان عزف معه الفنان كاظم الساهر في حفلة أقيمت في اميركا، وكان عزفه أشبه بتشريف له. وعندما سُئل العازف المصري أحمد الحفناوي من يمتلك مقدرتك بالعزف على آلة الكمان قال: "ناظم نعيم في العراق وعبود عبد العال في سوريا".
 
التلحين لأم كلثوم
ربما تكون هذه المعلومات مفاجأة للقرّاء والباحثين ونقاد الموسيقى على حد سواء، ان الملحن العراقي ناظم نعيم لحّن لسيدة الغناء العربي ام كلثوم قصيدة"نداء" للشاعر العراقي حافظ جميل.
قصة تعاون الملحن ناظم نعيم مع كوكب الشرق، بدأت في الكويت، عندما كان برفقة سفير الاغنية العراقية ناظم الغزالي، وكان نعيم لصيق الغزالي في كلّ حفلاته وسفراته الخارجية، ويعود له الفضل في نجاح ونجومية الغزالي.. فقد استثمر الغزالي موهبة هذا الملحن العبقري في اعداد وتلحين الكثير من اغانيه.
التقى ناظم نعيم بعازف الكمان الاول في فرقة ام كلثوم احمد الحفناوي بالكويت، وكانت ألحانه تلقى رواجا طاغيا بصوت ناظم الغزالي، وكان الحفناوي معجبا بهذه الالحان.
طلب نعيم من الحفناوي، ان يقدم لأم كلثوم لحنا من الحانه، ورحب الاخير بهذه الفكرة، وقال له"في نية ام كلثوم ان تقدم اغنية لكل بلد عربي من ألحان فنان من ذلك البلد".
يقول نعيم "أخذت عودي وذهبت الى القاهرة في العام 1973 والتقيت بأم كلثوم في شركة"صوت القاهرة" وهي تجري تمارين مع فرقتها لأحد ألحان محمد عبد الوهاب".
استمعت ام كلثوم الى اللحن، لكنها طلبت تغيير قصيدة"بريد القبل" للشاعر جميل حافظ، واختارت قصيدة "نداء" لنفس الشاعر.
وفي العام 1974 يقول ناظم نعيم عدت الى القاهرة والتقيت بام كلثوم وتباحثنا وكانت معجبة بالنص واللحن، وطلبت مني ان اكتم السر لتكون مفاجأة للمستمع العربي، وان لا أدلي بأية معلومة عن الاغنية لوسائل الاعلام. الا ان ظروفها الصحية وسوء حالتها وسفرها للعلاج وانتظار عودتها متشافية، أخر في تقديم الاغنية. ثم رحلت رحلتها الابدية!! قبل تسجيل الاغنية.
وظلت قصيدة"نداء" حلم يداعب مخيلة الملحن ناظم نعيم حتى رحيله، لو تجسد هذا الحلم على ارض الواقع، لكان له شأن كبير في ساحة الغناء العربي، ولفتح الباب على مصارعيه لتخرج موهبته الى أصوات العديد من نجوم الطرب العربي انذاك. رحم الله الفنان الكبير ناظم نعيم الذي اثرى المكتبة الغنائية بفيض موهبته وألحانه.