احمد ابراهيم السعد قاص وروائي بصري عرفته منذ قراءة مجموعته القصصية (جناحان من ذهب) عام 2007 وبعدها مجموعته القصصية الاخرى (جغرافيا الصور) ثم من خلال روايته (وهن الحكايات) الفائزة بجائزة الدولة للابداع في العراق عام 2014-2015 وها انا الان انهي قراءة آخر رواياته الموسومة ( العراق سينما) وكعادتي كلما انهي ما يسرده هذا المبدع اصاب بالتعلق الشديد باحداث سردياته .
رواية شيقة لغة وتقنية ومضموناً وبكل ما يحمل السرد من متعة ولذة ، رواية تتصف بالدهشة والمفارقات بالاحداث والتداخلات الما بعد حداثوية بطريقة تشعر معها بالتوهان والانزياح مع المفردات والدلالات التي يسبغها السارد في بنية هذه الرواية والعودة مرة اخرة لخيمة الثيمة المركزية المسبغة على جسد الرواية، وباساليب سريالية وميتا سردية ورمزية ، فهو سعى لاحداث الدهشة (وصفاً وسرداً) من خلال ما قدمه من هذا الخليط التقني والاسترجاع وتوظيف تقنيات الشعر والسينما وخلطها بسحرية غرائبية مع متعة السرد لتخرج لنا هذه الرواية ( العراق سينما) اذ وثقت الوجع العراق منذ الحرب الايرانية وحتى مظاهر القتل والطائفية ما بعد 2003 ..
ابطالها (السارد العليم ، خضير، نجم) كانوا يحلمون بان ينتجوا فيلماً سينمائياً، لذا كتبوا على ظاهر اقدامهم كلمات (كاتب/مخرج/ممل) (ممثل) ولكن دونما نقاط ، الكاتب بالتأكيد كان السارد العليم ابن المعلمة (جمهورية) نقطة انطلاق احداث الرواية ورغم خليط الزمكانية التي يبنيها الروائي في بنية نصه، الا ان الثيمة المركزية التي تتأسس من خلال الشخصيات الرئيسة تدور وقائعها في البصرة ، هي رواية تؤرشف وجعنا مع الحروب وادانة كبرى لتلك الحروب وانعكاساتها على المجتمع، جمالية التقابل وتوظيف الدلالات اللغوية شكلت بناء مهماً ضمن سرديات السعد ، وظفها رمزياً للادانة والنقد والاستهجان والسخرية والتهكم في مجمل ما جاء بفضاء روايته (( كانت في زمني اكثر من ساعة عندما جاءت ام خضير وجلست عارية على الاريكة وبدأت تنشف شعرها المبتل ، فيما كان صدام حسين يمسح دمعة مفبركة على جنوده في الحرب ص21)).
الهم الانساني في الرواية كان ينتقل من الخاص للعام ، حتى على مستوى الادانة ، شخوص الرواية كانت تنزلق من بين يدي السارد لتتصرف كيفما تشاء ، تتمرد احياناً وتسرح في واقعية مفرطة ، تشتم بعض ، ترتكب السلوكيات الغرائبية ولا تتورع من اي سلوك يمكن ان يرتكب ، وتارة تتصرف على سجيتها ودونما قيود من ساردها العليم ، تتداخل ازمنة الواقع مع ازمان واحداث افتراضية، (لو كنت مخرجاً) لكنها من ضمن بناء الفضاء السردي ، هذا التداخل يشكل جمالية من نوع خاص على شكل الرواية وشكل الاحداث التي تسير بوتيرة متصاعدة من التشويق، فالصراعات هنا ذاتية تأخذ ابعاداً سيكولوجية وسيسولوجية ولم يكترث السارد العليم باخراج الصراعات المادية الخارجية الا بصورها الدلالية الرمزية والتي تعد اكثر وطأة واستهجاناً من المشهدية المباشرة، ولاننا اصبحنا سينما فكان يرجع السارد دلالة مشاهده الى ما يشبه السينما عبر الافتراض تارة وعبر الفلاش باك تارة اخرى فتجري احداث داخل احداث وتقنية داخل تقنية ، ويبدو من خلال ما قدمه من سرد تحويل مشهدية الاقدام الى (سينما) صالحاً لان يكون ضمن رؤى السينما السريالية القصيرة (( اب يصور قدمي طفله بكاميرا فيديو..في ساحة ترابية واسعة كرة تتناقل بين اقدام حافية.
قدما شاب وشابة تدخلان الطست ويدوسان سوية بطانية ملونة ...ساق على ساق وقدم على قدم تتحرك على ايقاع انغام اغنية....قدم فلاح تكبس على مدك مسحاة وتقلب قطعة من الارض...في سيارة ايفا عسكرية تتجاوز مئات البساطيل بمقاسات مختلفة...ص26))، مشاهد الادانة التي كانت حاضرة في بنية الرواية ومضمونها توزعت على السلطة والمجتمع على حد سواء كما حصل في مشهد غرق (المحامي/السارد/انا) في نهر آسن بعد ان حاول رمي حقيبة المحاماة وصاح عجوز : ارهابي ارهابي..عبوة ناسفة...عبوة ناسفة...ما دعا الناس للتجمهر وحمله ورميه ليشرب براز المدينة المتحلل ببولها وبصاقها وغرغرتها وحيض نسائها وكائناتها النافقة غرقاً ..ان سيكولوجية المفردات التي تهيمن على السارد انما تفضي لتقريع من نوع خاص يمارسه المؤلف على المعاناة التي المت به ، واحاطت بوطنه واحالته الى وطن خفيف حد الاختراق ( لا اتذكر من قال : عندما يخف الوطن يطير المواطن ص63) وليست هذه المفردات فحسب مهيمنات سيكولوجية راكزة ، وانما غيرها الكثير تتوشح به مرارة السرد الذي يكتبه كاتب ذاق جل تلك المرارات وتعايش معها ..لاسيما اننا مررنا بفترات وحشية تحولنا لانياب كاسرة وافواه مكشرة تأكل الاخر دون مواربة ، ((كان كلبي الابيض يجلس عند باب بيتنا الخارجي والقدم الى جانبه ، وكأنه يقدم لي علامة حيوانية على وحشية آدميتنا ، كانت قدم طرية الذبح ، بيضاء وناعمة، ربما كلابنا وقططنا لا تأكل يوم ذاك لحم اطراف الجنود
المبتورة....كان ينظر لي وكأنه يقول : اقرأ لي المكتوب على ظاهر هذه القدم ...المذيعة : شوقتنا قل ماذا كتب على هذه القدم المسكينة...انا : العراق سينما ص68)) الروائي وفي معرض تداخلات مرارة الواقع مع ما قدمه في بنية هذه الرواية بدأ يكشف ذلك من خلال المضمر في روايته هذه التي بلا شك يدخل جزء منها السيري العابر او الملتقط ذاكرة
وارشيفاً.