{1917}... لا بطولة حقة سوى الجحيم

الصفحة الاخيرة 2020/04/28
...

د. عذراء ناصر
يذكرنا فيلم (1917) بتلك الأعمال الانجليزية الكلاسيكية بشيء كثير من دقة في الصناعة ما يجعله تحفة فنية بحق، تلك الاعمال التي تشدّنا فيها حركة الكاميرا منذ اللقطات الأولى حتى المشهد الأخير.
ولعل الهدوء العالي والحوار الفذ الذي اشترك المخرج سام مينديس في كتابته مع كاتبة السيناريو كريستي ويلسون كارنيس يجعل من الصعب على المشاهد ألّا يمنح انتباهه لكل كلمة في حوارات الفيلم، ذلك الحوار الذي تشغله الاستعارات والرموز المسيحية والتاريخية والدينية والادبية، بل إن كل ما في الفيلم يحمل رمزية عالية حتى حركة الكاميرا صعوداً ونزولاً ودوراناً خلال بناء تلك المشاهد المذهلة.
يعمد مينديس الى أن ينسينا في أحيان كثيرة أن الفيلم يصوّر الحرب، وذلك من خلال الانتقالات الهادئة والعوالم الرمزية التي يأخذنا فيها إلى ما يشبه الفيلم داخل الفيلم على غرار صناعة المسرح، وتجسيد المشاهد المسرحية داخل المسرحية الأم، ويمكن أن نقول إن الفيلم كاملا يتبنى التقديم المسرحي أصلاً، ويهيئ المشاهد لتلقيه واستقباله بطريقة سلسة كأنّه صار جزءاً منهاً، اذ تتصاعد الأحداث فلا نتمالك أنفسنا إلّا أن نتماثل مع البطل، ونجد أنفسنا في الأحداث محاولين دفع البطل الى تفاديها من دون جدوى، ولعل من تلك المشاهد التي تجسد هذا القول، مشهد الوصول الى مدينة أكوست (مدينة صغيرة شمالي فرنسا) والكنيسة المحاطة باللهب، اذ لا رؤية ولا نجاة في الأفق إلّا في الصليب الشاخص أمام البطل والذي يحيلنا إلى جحيم دانتي وعذابات ابطال مسرح 
شكسبير. 
هذه الصورة تعود الى ثقافة كتابات ما بعد الحرب لاسيما بعد نشر قصائد الشعراء الجنود في العشرينيات من القرن الماضي والتي عبروا فيها عن نهاية أدب تمجيد الحرب وعرض صورة الجندي /الضحية/القاتل الذي يدخل نفق الحرب ولا يخرج إلّا الى جحيم العذاب الأبدي حاملاً معه الحقيقة التي لم ولن تخرج من ذلك الجحيم 
أبدا.  
لا يتركنا المخرج من دون تقديم صورة الحرب العظمى ابتداءً من هيمنة مشاهد السواتر حتى صورة العدو المتوحش الذي لا مفرَ من محاربته وقتله للنجاة، وصورة الجندي البريطاني الذي يتوق قلبه إلى العودة الى الديار نظرة وتصويراً وحواراً، وطبعا لا يفوت الاشارة الى بريطانيا الإمبراطورية الإمبريالية التي لا تغيب عنها الشمس في حضور الجندي الهندي الذي يبدو ربما مقحماً في 
الفيلم. 
ولم تغب رمزيّة البوابات في توظيفها من قبل المخرج، فللبوابات رمزية كبيرة، ففي الوقت الذي يظنها فيه البطل باب النجاة، ينتهي به الأمر الى جحيم آخر، ولا يمكن له الافلات إلّا من خلال السقوط في النهر في مشهد يذكرنا بفكرة التطهير في المسيحية او التخلص من الملائكية التي تثقل كتفي الجندي بما يحمله من رسالة تحيل المشاهد مباشرة الى فكرة النبوّة، ولكن المخرج هنا يقدمها على أنّها الحمل الذي يقود الجندي أخيراً الى النجاة برغم الثمن الباهظ الذي يدفعه 
لقاءه.