المجتمع الشعري

ثقافة 2020/04/29
...

صلاح حسن السيلاوي 
 
لغواية الشعر أثرها المحفوف بالسحر، تلك الغواية التي كثيراً ما وطأت صحارى القول بأقدام منذورة للجنان مرة، ومحاطة بوهم المجد والخلود في ذاكرة التواريخ مرات عديدة، إنها الغواية التي طالما أثرت سلبا وإيجابا على المثقفين والأدباء، فأظهرت لنا شعراء كباراً مثل المتنبي والسياب والجواهري، وفي الوقت نفسه ، أسهمت بتشويه تجارب بعض المعنيين بالنقد والفكر والسرد، وذلك من خلال تأثرهم السلبي بشخصية الشاعر، هذه الشخصية، التي تحمل رمزية عالية، ويُلصق بها كثير من الروايات التاريخيَّة والتراثية والاسطورية بمعنى أن ثمة مخيلة مسحورة تتسع في ذهنية المجتمع، معتمدة على ما تملكه من مرتكزات وإرث، يوصل الشاعر الى حد التأليه والنبوة أحياناً.
أرى أنَّ غواية الشعر مثلما أسهمت بتطوير تجارب معينة كما أسلفت، نقلت انظار وجهد مثقفين ومبدعين من مناطق اشتغالهم المهمة إلى الشعر، وهذا ما جعل الأخير يتسيد الثقافة العربية والعراقية، ويترك فراغاً في بعض مناطق الإبداع الأخرى؟.
 لماذا يحدث ذلك؟، ما الذي يجعل بعض النقاد والروائيين والفنانين التشكيليين، يحاولون بكل السبل أنْ يكونوا شعراء على الرغم من كونهم متميزين في مجالاتهم الاولى، اكثر مما يحاولونه في الشعر؟.
أيمكن أنْ نتهم غواية الشعر هذه، أنها أسهمت بتراجع المواهب العلمية في البلاد؟، وجعلت هوس الشهرة في المجتمع محصوراً، في ذهنية الناس في أطر الشعر والفن؟، أيمكن أنْ نرفع هذا الاتهام بوجه الشعر، بما يمكن أن نعده دليلاً، وهو عدم وجود شخصيات علمية مشهورة، في المجتمعات العربية بمستوى شهرة الشخصيات الشعريَّة، ألا يشير ذلك إلى تراجع في نظم الحياة الاجتماعية المدنية؟ كلما تصفحتُ وجوهَ حياتنا الاجتماعية في العراق أكتشف أنَّ مجتمعنا يعيش داخل قصيدة كبيرة، أسهمَ في كتابتها وبثِ صورها ونفخِ مخيتلها حشدٌ كبير من الشعراء عبر التاريخ ولهذا فمنذ فترات طويلة من الزمن أصبح العراقيون مجتمعاً شعرياً.
كلُّ عراقيٍ يحمل في ذاكرته دفاتر من الحكايات المتطايرة كالسحب في مخيلته عن شعراء وشاعرات وأحداث كثيرة صنعها الشعرُ وأهلُه وأثّرَ في تحويل مساراتها ولنا أنْ نكتشف ذلك بوضوح من خلال تتبع علاقة الدين ورجاله بالشعر وعلاقة الحكام من ملوك وقادة بالشعراء وتدخل الشعر 
في كل تفاصيل حياة العراقيين فالإنسان في بلادنا يولد ويموت بين قصيدتين، إذ يُكتب و يُقرأ الشعر في احتفال ميلاده وفي 
مماته كذلك، ولنا أنْ نلاحظ كيف تسيدت الأهزوجة وتطورت وتداخلت في دقائق العراقيين كلهم مؤخرا. أجد أنَّ الشعرية التي أسهمت بجعل العراقي حساساً وذواقاً وباحثاً عن الإشارات والدلالات في اللغة والحياة، أغرقته في الأسطورية والرمزية اليومية ورفعته بأجنحة الخيال.
مجتمعنا ملتصق بالخيال ومبتعد عن الواقع أكثر 
من غيره بسبب تربيته الشعرية.