طاعون الرقص العجيب في صيف 1518
ثقافة
2020/05/04
+A
-A
جون والر
ترجمة: جمال جمعة
قبل خمسة قرون، حدثت أطول حفلة صاخبة في العالم في مدينة ستراسبورغ. "طاعون" الرقص الذي كان مميتاً بالنسبة للبعض، ما سببه؟ الفن، الشعر، والموسيقى في ذلك الزمن يمكن له أن يوفر لنا بعض القرائن.
بدأ الأمر مع نفر قليل من الناس يرقصون في الهواء الطلق في حرارة الصيف. كانت الأذرع تلوّح، الأجساد تتمايل، والملابس منقوعة بالعَرَق، ورقصوا طوال الليل حتى اليوم التالي. نادراً ما كانوا يتوقفون للأكل أو الشرب، وبدا كأنهم غافلون عن الإرهاق والألم المتصاعد من أقدامهم المكدومة، ظلوا يواصلون ذلك لعدة أيام لاحقة. في الوقت الذي تدخلت فيه السلطات، كان مئات آخرون يرقصون على ذات المنوال المسعور.
لكن هذه لم تكن واحدة من تلك الحفلات الصاخبة في الثمانينيات التي تبدأ في موقف سيارات ناءٍ وتنتهي في حقلٍ موحل. لقد كانت بالأحرى واحدة من أغرب الأوبئة التي تم توثيقها في تاريخ العالم. وقد حدث هذا قبل 500 عام في الصيف، في مدينة ستراسبورغ الفرنسية. هناك، على مدار ثلاثة أشهر في قيضٍ يشوي الأجساد عام 1518، أصيب عدة مئات من الناس برغبة ملحّة في الرقص. استمر الرقص واستمر إلى أن ـ أمام أنظار الحشود المرعوبة التي تجمعت للمشاهدة ـ انهار بعضهم وهلك في مكانه. لكن ما الذي حدث هناك بالضبط؟
طبقاً لرواية كتبت في ثلاثينيات القرن السادس عشر من قبل الطبيب الغضوب، لكن اللامع باراكلسوس، فإن "طاعون الرقص في ستراسبورغ" بدأ في منتصف
تموز/ يوليو 1518، عندما خطت امرأة وحيدة خارج منزلها وشرعت ترقص لعدة أيام متواصلة. في غضون أسبوع، استحوذت على عشرات آخرين نفس الرغبة الملحّة التي لا تُقاوم.
المواطنون الأثرياء الذين يديرون المدينة كانوا غير مستمتعين. أحدهم، الكاتب سيباستيان برانت، كرّس فصلاً من كتابه الوعظيّ شديد الرواج (سفينة الحمقى) عن حماقة الرقص. مرتبكين بالفوضى التي في الشوارع، قام هو وزملاؤه من أعضاء مجلس المدينة باستشارة الأطباء المحليين الذين أعلنوا، تماشياً مع الحكمة الطبّية المعيارية، أن الرقص ناجم عن "ارتفاع حماوة الدم" في الدماغ.نفّذ أعضاء المجلس ما شعروا بأنه العلاج المناسب ـ المزيد من الرقص! أمروا بإخلاء سوق الحبوب المكشوفة، صادروا قاعات النقابات، ونصبوا منصة بجوار معرض الخيول. إلى هذه المواقع اقتادوا المخبولين بالرقص، معتقدين أنهم بالحفاظ على الحركة المسعورة سينفضون المرض عنهم. حتى أن أعيان المدينة استأجروا زمّارين وطبّالين ودفعوا مالاً إلى "رجال أقوياء" لإبقاء المنكوبين مستقيمين من خلال التشبث بأجسادهم أثناء الدوران والتمايل. بقي أولئك الذين في سوق الحبوب ومعرض الخيول يرقصون تحت وهج شمس الصيف الساطعة في مشهدٍ شيطانيٍّ غريب يشبه خيالات هيرونيموس بوش.
تشرح قصيدة في أرشيف المدينة ما حدث بعد ذلك: "في غمرة جنونهم واصل الناس رقصهم حتى فقدوا الوعي وتوفي الكثير منهم". أدرك أعضاء المجلس البلدي أنهم قد ارتكبوا خطأ. فأصدروا قراراً بأن الراقصين كانوا بالأحرى يعانون من الغضب المقدس بدلاً من سخونة الأدمغة، واختاروا فترة للكفّارة القسرية والموسيقى المحظورة والرقص في الأماكن العامة. وفي النهاية، تم نقل الراقصين إلى ضريح مخصص للقديس فيتوس الموجود في مغارة متعفنة في التلال فوق بلدة سافيرن المجاورة، حيث وضعت أقدامهم المدماة في أحذيةٍ حمراء وطيف بهم حول التمثال الخشبي الصغير للقديس. في الأسابيع اللاحقة، تقول المدوّنات التاريخية، إن معظمهم قد توقف عن حركاته الهائجة. لقد انتهى الوباء.
يثير هذا الفصل الغريب من تاريخ البشرية فيضاً من أسئلة يصعب الإجابة عليها. لماذا وصف أعيان المدينة المزيد من الرقص كعلاج للأدمغة المطهيّة؟ لماذا جعلوا الراقصين يرتدون أحذية حمراء؟ وكم من الناس ماتوا؟ (ثمة كاتب عاش بالقرب من المدينة خمّن 15 شخصاً في اليوم، على الأقل لبرهة من الوقت، لكن هذا لم يتم تأكيده).
أعتقد أننا يمكن أن نكون أكثر ثقة في قول ما الذي تسبب، وما لم يتسبب في هذه الظاهرة الغريبة. لبعض الوقت، كان التسمم الأرغوني يبدو منافساً جيداً. وهو ينشأ عن استهلاك الطعام الملوث بصنف من العفَن الذي ينمو على "الجاودار" الرطب وينتج مادة كيميائية مرتبطة بحمض الليسرجيك LSD التي يمكن أن تتسبب بهلوسات مرعبة وارتعاشات عنيفة. لكن من غير المحتمل أن يجعل المصابين يرقصون لأيام. تماماً مثلما ان من غير المرجح الادعاء بأن الراقصين كانوا مفسدين للدين. كان من الواضح للمراقبين أنهم لم يكونوا يرغبون بالرقص. إن التفسير الأكثر مصداقية، في رأيي، هو أن سكان ستراسبورغ كانوا ضحايا مرض نفسي عامّ، والذي نطلق عليه عادة اسم "الهستيريا الجماعية".
كان هناك العديد من تفشيات الرقص الأخرى في القرون السابقة، شارك فيها المئات أو عدد قليل من الناس فقط، جميعها تقريباً حدثت في البلدات والمدن القريبة من نهر الراين. جنباً إلى جنب مع التجار، والحجّاج، والجنود الذين ذرعوا هذه المياه جيئة وذهاباً، تسافر الأخبار والمعتقدات أيضاً. فكرة معينة يبدو أنها قد استقرت في الوعي الثقافي للمنطقة: إن القديس فيتوس يمكن أن يعاقب الخطاة بجعلهم يرقصون. ثمة لوحة في كاتدرائية كولونيا، على بعد أكثر من 200 ميل في اتجاه مجرى النهر من ستراسبورغ، تُمسرِح اللعنة: تحت صورة القديس فيتوس، ثلاثة رجال يرقصون باكتئاب، ووجوههم تحمل تعابير المنفصلين عن الواقع والمصابين بالهذيان.
يمكن لهذا الإيمان بالقدرة الخارقة للطبيعة أن يكون له تأثيرات دراماتيكية على سلوكنا. الحالة الكلاسيكية هي "امتلاك الروح"، التي يتصرف الناس فيها كما لو أن أرواحهم قد استولى عليها الجن أو الآلهة. كتبت عالمة الأنثروبولوجيا الأميركية إريكا بورغينيون عن كيفية نشأتها في "بيئة من المعتقدات"، حيث تؤخذ حيازة الروح على محمل الجد، تحث الناس على الدخول في حالة نفسية فصامية، يتم فيها تعطيل الوعي الطبيعي. عندها يتصرف الناس وفقًا لأفكار مفروضة ثقافياً بشأن كيفية تصرف الممسوسين. هذا ما حدث في الأديرة الأوروبية قبل أوائل القرن الثامن عشر، عندما كانت الراهبات يتلوّين، ويتشنّجن، وتزبد أفواههن، ويقمن بإيماءات فاحشة ومراودات، ويتسلقن الأشجار ويمُؤن مثل القطط. سلوكهن قد يبدو غريبًا، لكن الراهبات عشن في مجتمعات شجعتهن على الهوس بالخطيئة والانغمار في خوارق غامضة للطبيعة. أولئك الذين أضحوا مقتنعين بأن الشياطين قد تلبّست أرواحهم كانوا عرضة للسقوط في حالات فصامية فعلوا فيها بالضبط ما قاله اللاهوتيون وطارِدو الأرواحِ الشرّيرةِ بأن على الممسوس بالشيطان أن يفعل. في مثل هذه الحالات، نشوة التلبّس تتفشى أيضًا بين الشهود الذين يتشاركون في نفس المخاوف اللاهوتية.
هذه الملاحظات يمكن أن تنطبق بالتأكيد على ما حدث في ستراسبورغ عام 1518. إن لعنة القديس فيتوس هي مجرد نوع من الإيمان الغيبيّ الذي يمكن أن يدفع بالقابلين للتأثر إلى حالات انفصالية. تتفق السجلات على أن معظم الناس سرعان ما افترضوا أن القديس فيتوس الساخط قد تسبب بهذه المحنة. لذا، كل ما تطلبه الأمر هو أن يوجد حفنة من المتدينين والواهنين عاطفيًا للاعتقاد بأن سانت فيتوس قد وضعهم نصب عينيه للدخول في حالة غشيان يشعرون فيها أنهم مضطرون للرقص لعدة أيام. إذا كان الهوس الراقص بالفعل حالة مرض نفسيّ جماعية، فيمكننا أيضًا أن نرى لماذا انغمس فيها الكثير من الناس: أفعال قليلة يمكن لها أن تفضي إلى إثارة وباء نفسيّ شامل أكثر من قرار أعضاء المجلس بسَوقِ الراقصين إلى أكثر أجزاء المدينة شعبيةً. مشاهدتهم ضمنت أن يكون سكان المدينة الآخرون خاضعين للتأثير لأن خطاياهم كانت تسكن عقولهم، وإمكانية أن يكونوا هم التالين.
استوفت الحياة في ستراسبورغ في أوائل القرن الخامس عشر شرطًا أساسيًا آخر لتفشّي المرض النفسيّ: سجّلت المدوّنات الكثير من المحن التي تسببت في زيادة مستوى الاستهواء. الصراعات الاجتماعية والدينية، الأمراض الجديدة المروّعة، فشل الحصاد وارتفاع أسعار القمح تسبب في بؤس واسع النطاق. أحد المؤرخين وصف سنة 1517 بإيجاز مؤثّر بأنها "سنة سيئة". في الصيف التالي، كانت دور الأيتام، والمستشفيات، والملاجئ غارقة في اليأس. كانت تلك ظروفًا مثالية لبعض المعوزين في المدينة ليتصوّروا أن الله كان غاضبًا منهم وأن سانت فيتوس يطوف في شوارعهم.
لحسن الحظ، كان وباء الرقص عام 1518 هو الأخير من نوعه في أوروبا. في جميع الاحتمالات، تراجعت إمكانية حدوث المزيد من التفشّيات جنبًا إلى جنب مع منظومة المعتقدات التي دعمتها. وبهذه الطريقة، يؤكد هوس الرقص على قدرة السياق الثقافي على تشكيل الطريقة التي يتم بها التعبير عن المعاناة النفسية. بعض الأحداث تكشف بشكل أكثر وضوحاً عن التطرف الغريب الذي يمكن لأدمغتنا أن تأخذنا إليه حينما تكون في قبضة الخوف الجماعيّ.
"جون والر هو مؤلف كتاب: وقت للرقص، وقت للموت: الحكاية الغريبة لطاعون الرقص في عام 1815"
عنThe Guardian