لقد طرحَ (كانت) مفهومَ السلامِ الدائمِ بديلاً عن مفهوم ِالتسامحِ، لأن مفهومَ التسامحِ يحملُ بينَ طياتهِ الإشارةَ للصراعِ بينَ الطوائفِ أو المذاهبِ، وقد وضعه (لوك) لحل مُشكلة الصراع الديني بين الطوائف المسيحية التي برأي فولتير "لو لم تأت معاهدة وستفاليا (1648) لتوفر حُرية المُعتقد" لما انتهت (حرب الثلاثين) بين الكاثوليك وبُلدان أوروبا، التي كانت من أهم بنودها، الاعتراف بثلاث طوائف، هي: الكاثوليك والللوثريين (البروتستانت) والكالفنيين.
لكن بعد أن تطور الصراع واشتد إواره، لا سيما بين الدولة العثمانية والنمسا، والحروب الأهلية في إنكلترا وأيرلندا وأسكتلندا (1648ـ1651)، وحروب الدولة العثمانية ضد أوروبا التي وقعت احداثها بين (1667ـ1699)، والحروب الروسية التركية (1688ـ1679)، شعر بعض فلاسفة التنوير وعلى رأسهم (إيمانويل كانت) بضرورة طرح مفهوم يتجاوز الأفق التداولي المحدود لمفهوم التسامح، فطرح "مفهوم السلام الدائم" في رسالته الشهيرة بالعنوان ذاته.
طرح كانت في كتابه "مشروع السلام الدائم" رؤيته الفلسفية لإقامة مجتمع مدني أساسه العدل والحرية، ويمكن لنا تلخيص مشروع (كانت) في كتابه هذا بمجموعة مواد:
1ـ عقد سلام بين الدول على أساس معاهدة، وينبغي أن لا تكون هذه المُعاهدة مبنية على عدم ثقة الطرفين ببعضهما البعض، أو أن تكون هناك نية مُبطنة عند عاقديها لأمر من شأنه إثارة الحرب
من جديد.
2ـ لا يجوز امتلاك دولة لدولة ما، وإن كانت هناك دولة كبيرة وأخرى صغيرة سواء أكان الأمر بالميراث أو الشراء أو الهبة، فليس من حق الدولة الكبيرة مُصادرة استقلالية وحُرية الدولة الصغيرة، ، لأن كل دولة هي جماعة إنسانية لا يحل لأحد سواها أن يفرض سُلطانه عليها أو أن يتصرف في شؤونها.
3ـ إلغاء الجيوش الدائمة إلغاء تاما على مر الأزمان، لأن في وجودها الدائم تهديد لأمن الدول الأخرى. أي "نزع السلاح تدريجياً، لحين الوصول إلى زوال الجيوش المُحترفة".
4ـ العمل على الابتعاد عن الاستدانة أو "القروض" الدولية، إن لم يكن بمُستطاع الدول الدائنة وبخطط مدروسة استرجاع الدين أو "القرض".
5ـ منع تدخل أي دولة بالقوة في نظام دولة أخرى، أو في طريقة الحُكم فيها، لأن مثل هكذا تدخل حتى وإن كان حسن النية والمقصد، غالباً ما يؤدي إلى شقاق وانقسام بين أبناء هذه الدولة، فضلاً عما يحمله هذا التدخل من زعزعة لاستقلال الدول جميعاً.
6ـ لا يحق لأي دولة في حربها مع دولة أخرى أن تستبيح لنفسها مع تلك الدولة القيام بأعمال عدائية، كالاغتيال، والتسميم، وخرق شروط التسليم، والتحريض على الخيانة، لأن من شأن هكذا أفعال عند عودة السلم بين البلدين، فقدان الثقة بين الدولتين.
على الرغم من أن (كانت) يُعد من أوائل دُعاة السلام الدائم بين الدول، إلًا أنه في الوقت نفسه يعتقد أن "حالة السلام بين أُناس يعيشون جنباً إلى جنب ليست حالة فطرية: إذ أن الحالة الفطرية أدنى لان تكون حالة حرب. وهي وإن لم تكن حرباً مُعلنة، إلَا أنها على الأقل مُنطوية على تهديد دائم بالعدوان. إذن ينبغي إقرار حالة السلام".يعتقد (كانت) بضرورة أن يكون الحُكم جمهوريا، لأنه يعتقد أنه قائم على مبدأي المساواة والحرية واحترام حق المواطن في اختيار مُمثليه أو من ينوبون عنه في البرلمان والحكومة التنفيذية.وضع (كانت) في مشروعه للسلام الدائم ما أسماه "قانون الشعوب" وهو الضامن لتحقيق السلام الدائم بين الدول، ينبغي أن "يقوم هذا القانون على أساس نظام اتحادي بين دول حُرة" إي نظام "فيدرالي" يُبنى على أساس إنشاء "حلف السلام"، وهو يختلف عن "معاهدة السلام"، لأن من شأنه أن يقضي إلى الأبد على الحروب جميعاً، بينما "مُعاهدة السلام" إنما هي إنهاء لـ "حرب واحدة".في هذا الحلف ينبغي للدول أن تتخلى عن حُريتها "الهوجاء" بعبارة (كانت)، "وأن تُذعن للالتزام بالقوانين العامة، فتؤلف بذلك "جامعة الأمم" تنمو على الدوام حتى تشمل آخر شعوب الأرض جميعاً". الأمر الذي يقتضي مُعاملة كل أجنبي موجود في دول هذا الحلف أو "جامعة الأمم" على أنه مُرحب به وتنطبق عليه كل قوانين البلد الذي حلَ فيه، وللدولة المُضيفة حق رفض إيوائه في حال كان في وجوده ما يضر بمصالح الدولة المُضيفة.يدعو (كانت) إلى اعطاء الفلاسفة الحق في تنوير الدولة والحاكمين فيما يتعلق بالأمور السياسية.وإن كان في مشروع كانت كثير من النزوع نحو الحُلم والمثال الأرقى لبناء حياة مُثلى، إلَا أنه ليس بمشروع صعب المنال، أو من توهمات اليوتوبيين، فمثلما يأمل بعض الحالمين في الديموقراطية اليوم تحقيقها لرغبات وإمنيات في بناء مجتمع حر، فسيبقى لكانت والحالمين من أمثاله الحق في طرح رؤاهم الحالمة في بناء مجتمع عادل للفلاسفة والحُكماء الحق في إدارة دفته.فـ "المثال هو المُتمنى، ما أن يتحقق، يصبح واقعاً" بعبارة أستاذنا مدني صالح، فلا فرق بين ما هو مثالي وواقعي إلَا من جهة التحقق.لذلك نجد (كانت) يؤمن بضرورة أن يكون هناك دورٌ للدولة "السلطة "بفرض السلام فرضاً" بين أبناء المجتمع الواحد أو بين الدولة والدول المُجاورة، وفق الدستور، الذي ينبغي، ويبدو أن كل الفلاسفة يعملون على هذا "الينبغي" مثاليين كانوا أم واقعيين، فلا سلطة عندهم، سوى الدعوة إلى التزام المجتمع والسلطة بتطبيق الدستور، الذي "ينبغي" أن يكفل الحُريات، وحق المُجتمعات في العيش، وفي حال لم تستطع الدولة أو الأمة ضمان حق العيش والحريات، فـ "ينبغي" لها أن تدخل في توافق دولي أو شراكة مع دول أو أمم أخرى تضمن لها تحقيق شروط المواطنة الحقة لمجتمعها داخل الوطن الواحد، وبناء علاقات سلام وفق مُعاهدات دولية تحترم السيادة مع الدول الأخرى.