ستراتيجيّةُ التخادم الحادثةُ والأداةُ

ثقافة 2020/05/07
...

محمد صابر عبيد
 

تنطلق فكرة "التخادم" أساساً من وجود طرفين متفاهمين ومتعاقدين على تبادل الخدمة فيما بينهما في مستوى واحد وفائدة مشتركة بالتناوب، بحيث تكون هذه الخدمة ذات طبيعة متداخلة ومتعاضدة ومتشابكة من حيث الأسباب والنتائج والأصول والمعطيات والمقاصد والأهداف، بمعنى أنّ كلّ طرف منهما يشتغل على بناء مشروعِ خدمةٍ يعرفها الطرف الآخر وينتظرها ويجتهد في تطويرها وإعادتها.

وهذا التفاعل والتلاقي والتبادل والتعاطي المشترك من شأنه بلوغ نتيجة عالية المستوى يعود بالنفع العميم على الطرفين بربح كامل للطرفين ومن غير أيّة خسائر، ولا تنفضّ شراكة التخادم هذه إذا ما قُدِّرَ لها ذلك إلا في سياق انسحاب أحد الطرفين من المعادلة لأيّ سبب كان، عندها تنتفي الحالة "التخادميّة" تماماً ولا يصبح لها وجود ولا قيمة ولا فعل ولا نتيجة بحيث تختفي تماماً من الوجود، ويتّجه كلّ طرف منهما نحو خدمة ذاته بذاته معزولاً عن فكرة التواصل مع الآخر بأيّ شكل من الأشكال.
تتأسّس هذه الفكرة حول مفهوم "الحقيقة" بوصفها المركز والهدف الذي يتّجه نحوه الطرفان المتخادمان للتعاطي معها واستثمار إمكاناتها في هذا المضمار، وثمّة ثلاثة أساليب أساسيّة في التعامل مع الحقيقة تقوم عليها فكرة التخادم بحسب طبيعة المهمّة والمنهج والرؤية لكلّ طرف من طرفي الفكرة. 
ويعتمد اختيار أحد هذه الأساليب على نوع التجربة المخدومة وطبيعتها والمنهج الذي ينبغي اعتماده في سبيل بلوغ أفضل مستوى طبيعيّ للإنجاز، بالمعنى الذي يسمّي نوعيّة الحادثة المُراد الاشتغال عليها من جهة، وهويّة الأداة المناسبة للتعامل معها على وفق رؤية مناسبة وطريقة عمل فعّالة من جهة أخرى، تجعل من الحادثة والأداة عنصرين يتحرّكان في منظومة عمل مشتركة واحدة تتناغم مع الخارج المحيط بها أخذاً وعطاءً كلّما اقتضت الضرورة واستدعت الحاجة، وتشتغل في أعلى درجات التلاؤم والانسجام والتقدّم والتطوّر وصولاً إلى الهدف المنشود والمقصد المبتغى.
تنطلق الأساليب الثلاثة من بؤرة ما يصطلح عليه "الحقيقة" التي يتّفق عليها طرفا فكرة التخادم بوصفها الواحة التي يتمّ اللعب على مساحتها أرضاً والتحليق في أجوائها سماءً، إذ تكون لديهما معاً حقيقة مُتّفَقٌ عليها من دون أن يتعرّض مفهومها الإشكاليّ لتفسيرات وتأويلات مختلفة قد تُجهز على مشروع التخادم من بدايته، فلا بدّ إذن من تعيين المستوى المحدّد والمعيّن والدقيق والواضح القابل للعمل والتفاهم حول مصطلح "الحقيقة"، بعيداً عن الولوج اللزج في متاهة التفاصيل التي يكمن فيها الشيطان عادةً، فالخطوة الأولى على سطح الحقيقة تبدأ من نقطة الاتفاق المطلق على درجة هذه الحقيقة المفردة البيّنة التي لا خلاف عليها بين الطرفين، ومن ثمّ التوجّه نحو الأساليب الثلاثة داخل هذا الإطار وهي تلعب على مفهوم الحقيقة بين طبقتي "الإفشاء والإخفاء" وما بينهما، لإتاحة قدر من الحرية في انتخاب الأسلوب المطلوب بما يتناسب مع جهة الحادثة وجهة الأداة، على النحو الذي يحقّق أكبر قدر من الفائدة والجدوى لطرفي التخادم.
يذهب الأسلوب الأوّل نحو فعاليّة "إفشاء الحقيقة" وكشفها حتّى يوفّر الخادم لمخدومه أفضل سبل العمل والإفصاح عن الجوهر، بغية الوصول إلى أبلغ درجة من درجات الفائدة والإمتاع وتحقيق الأهداف والمقاصد المبتغاة من وراء ذلك. وبما أنّ خيار إفشاء الحقيقة في هذا المقام هو الخيار المنتخَب أولاً بما يشير إلى أهميّته وخطورته قياساً بالأسلوبين الآخرين، فينبغي إدراك مستويين من النتائج المرافقة لهذا الاختيار، أحدهما إيجابيّ تقوم عليه أساساً فكرة التخادم وتعطي نتائجها المتوقّعة والمنتظَرة، والآخر سلبيّ يضرّ حتماً بالعمليّة وقد يقوّض إجراءتها تماماً إذا لم يتم احتواؤها وتدارك أعراضها الجانبيّة السيئة.
 وينبغي الانتباه الشديد إلى حساسيّة التعامل مع هذا الآخر السلبيّ والسعي إلى استبعاده تماماً، أو في الأدنى التقليل من فرص تأثيره السلبيّ إلى أقصى حدّ ممكن، وهو ما يحتاج إلى إمكانات هائلة في منطق التعامل مع المتضادّات على الصعيد الذي تنجح فيه الأداة العاملة والفاعلة في عزل مقتربات كلّ طرف من طرفي التضاد عزلاً تاماً قدر المستطاع، ومن ثمّ التوجّه نحو تكبير صورة الضدّ الإيجابيّ وتوسيعها وتعميقها إلى الحدّ المعقول والمطلوب والمؤثِّر، وتصغير سطوة وقوّة الضدّ السلبي وتحجيمها وتضعيفها إلى الحدّ المعقول والمطلوب والمؤثِّر أيضاً، بإنشاء نوع من الموازنة القائمة على توجيه الحادثة المُراد الاشتغال عليها في هذا السبيل، بما يستجيب لآليّات عمل الأداة بخصائصها النوعيّة القادرة على إحداث الفرق المطلوب بين جناحي التضاد.
فيما يتّجه الأسلوب الثاني على العكس من الأسلوب الأوّل وفي الطرف المقابل له حيث يقتضي ذلك "إخفاء الحقيقة" لتوفير فرصة الفائدة والإمتاع في الوجه الآخر من العمليّة، ومثلما يوفّر هذا الإخفاء فُرصاً عظيمة للعمل في ظلّ المسكوت عنه على نحو حرّ ومفتوح وديناميّ، فإنّه في الوقت نفسه يترك آثاراً جانبيّة يتوجّب الانتباه إليها والتعامل الذكي معها بحيث لا تؤذي مشروع التخادم ولا تُوقِف تقدّمه، عن طريق نزع إمكانات التأثير من هذه الآثار الجانبيّة وتحييدها وإبطال عناصر قوّتها ذات التأثير السلبيّ، ومنع فرص تغلغلها في المناطق الحساسّة من حادثة التخادم.
ويبقى الأسلوب الثالث في هذا الإطار متردّداً بين الأسلوبين الآنفين كي يعمل على "إفشاء نصف وتغييب نصف"، وكأنّ هذه الطريقة البَينيّة توفّر الفرصتين السابقتين، فرصة الإفشاء وفرصة الإخفاء، معاً وفي سياق واحد. وهو أسلوب جديد مشحون بإيجابيات الأسلوبين السابقين كلّها وسلبياتها كلّها، بحيث تتعقّد العمليّة أكثر على أداة التخادم إذ عليها أن تقوم بعمل مضاعف على الحادثة لحشد فرص النجاح الإيجابيّة المأخوذة من الأسلوبين لدعم النصف المضيء، وإهمال العناصر السلبيّة وإزاحتها عن طريق تفعيل حركة الصراع الداخليّ بين عناصر الإفشاء وعدمه في الطرف الإيجابيّ، وعناصر الإخفاء وعدمه في الطرف السلبيّ، وتحريك الأداة نحو الميل إلى الطرف الإيجابيّ واستبعاد الطرف السلبيّ كلّما وجدت سبيلاً إلى ذلك، في فعاليّة استنهاض لحساسيّة المقاومة والدفاع والتحصين، نحو الانتقال بفكرة التخادم من مستوى التفكير المجرّد إلى مستوى الفعل
 المُنتِج.