نهاية عصر النفط وبداية عصر الغاز.. آفاق استثمار الغاز العراقي

العراق 2020/05/07
...

عبد الحسين الهنين
 
وعدت في المقال السابق ( اتفاق الصين في مواجهة وهم السعر العادل للنفط) ان اكتب لكم عن استثمار الغاز العراقي واعترف  بالقول انني احاول منذ فترة ليست بالقصيرة  التعرف عن قرب عن حاجة العراق الفعلية للغاز والاحتياطي المثبت وامكانية استثمار الغاز العراقي , وترددت ان اخوض في الأرقام بسبب الضبابية التي تحيط بهذا الملف بحسن نية او ربما بشكل مقصود والاختلافات الجدية بين ما نسمعه او نقرأه في وثائقنا الرسمية وبين الإحصائية العالمية ومنها النشرة السنوية لشركة بريتش بتروليوم ( BP) التي تقدم احصاءات سنوية عن قطاع الطاقة بكل انواعه واستخداماته في جميع أنحاء العالم  . 
 
الهدف هو معرفة كيفية التخلص من الاستيراد الذي يحمل ابعادا اقتصادية  على المدى المتوسط والبعيد ,  و سياسية وأمنية ترتبط  بالعقوبات الاميركية ضد ايران وعملية تجديد الاعفاء ( Waiver ) من قبل الولايات المتحدة بعد التأكد من جدية العراق في استثمار ثروته من الغاز  بشكل يوفر بديلا معقولا لاستيراد الغاز الإيراني  علما ان عملية التأكد هذه  لم يكن العراق طرفا فيها او في اي تقييم لتلك الجدية المزعومة  التي يقررها الجانب الاميركي  بحسب معايير خاصة به.
ومهما يكن اشتباك السياسة بهذا القطاع   فانه لابد من الاعتراف من ان العراق اهدر الكثير من الفرص السانحة في ان يكون طرفا مؤثرا في صناعة الغاز العالمية , وقد حدثني صديقي (الدكتور عبدالكريم هاشم ) الذي كان يعمل سفيرا للعراق في موسكو من ان روسيا الاتحادية وجهت عام 2005  دعوة للعراق للانضمام كدولة كاملة العضوية الى منتدى الدول المصدرة للغاز  (GECF Gas Exporting  Countries Forum)الذي تم تأسيسه عام 2001  , لكن رد الحكومة العراقية آنذاك كان سلبيا بحجة ان العراق دولة نفطية وان الغاز ليس اولوية لنا بينما كان الروس يؤكدون ان العراق يمتلك احتياطيا واعدا من الغاز يضعه في المركز العاشر عالميا حينها و هناك دول في المنتدى هي اقل من العراق من حيث الاحتياطي اصبحت عضوا في المنتدى , وللأسف عاد العراق لينضم الى المنتدى عام 2012 بصفة عضو مراقب خلال الاجتماع الوزاري الرابع عشر لدول المنتدى الذي عقد في غينيا الاستوائية مع العلم ان المنتدى يتخذ من العاصمة القطرية الدوحة مقراً له.
من الناحية العملية فان العراق سوف يبقى بحاجة الى استيراد اكثر من 1000 مقمق (مليون قدم مكعب قياسي من الخارج لثلاث سنوات قادمة على الأقل في حالة تمكن وزارة النفط من تنفيذ كامل خططها المرسومة على الورق وهي ان تصل السعات الإنتاجية الى الهدف المرسوم و هو 3500 مقمق/ يوم في نهاية عام 2022 , وهذا يعني ان العراق سيتمكن من استثمار جزء كبير من الاحتياطي المتوفر في المكامن الغازية اضافة الى استثمار الغاز المصاحب لتوفير الجزء الأكبر من الحاجة الفعلية للغاز الطبيعي الجاف لغاية 2020 التي تقدر بـ 4500 مقمق/يوم  وهي تقابل انتاج 18000 ميكا واط من الطاقة الكهربائية المنتجة من مجموع السعات التوليدية المصممة للعمل بوقود الغاز الطبيعي حيث من المؤمل ان يتم ايقاف اعتماد وحدات الغاز عن الاعتماد على النفط الخام او زيت الغاز او زيت الوقود، بمعنى ان جميع محطاتنا المصممة للعمل على الغاز ( الجاهزة للعمل او التي لا زالت قيد الانشاء) ستشتغل بالغاز ,و هو يعني من الناحية والاقتصادية انه سترتفع كفاءة الوحدات التوليدية بنسبة لا تقل عن 20% و تقل كلف الانفاق على الصيانة و كلف استخدام المواد الكيمياوية المضافة لتحسين الوقود . 
لكنه يجب الأخذ بنظر الاعتبار ان الحاجة لمزيد من الغاز سوف تستمر في الصعود مع زيادة انتاج الطاقة الكهربائية وتوسع استخدامها في الصناعة وغيرها من قطاعات الإنتاج الحقيقية وان الهدف الذي يجب ان نستهدفه بحسب البيانات المتوفرة لدي هو تشغيل 32000 ميكاواط على الغاز سنة 2025 يتم انتاجها من الوحدات البسيطة  ( Simple Cycle )  التي تعتمد على الغاز كوقود وتحويل ممن لم يتحول بعد منها  الى وحدات مركبة ( Combined Cycle ).
يشكل الاحتياطي الخاص بالغاز الطبيعي للعراق المثبت كاحتياطي (Reserve ) حاليا في التسلسل الثاني عشر عالميا بـ (125.6 ) ترليون قدم مكعب قياسي حسب الاحصائية السنوية لعام (2018) التي تصدر من قبل شركة (BP) , بينما يبلغ 131 ترليون قدم مكعب بحسب بيانات وزارة النفط و نظريا واذا اعتبرنا ان الغاز سيوجه للكهرباء فقط فانه يكفي لإنتاج 33 الف ميكا واط من الكهرباء  (وحدات مركبة تعمل بالغاز) لمدة (60) عاما بمعدل استهلاك 5500 مقمق يوميا بشرط تحويل جميع المحطات الغازية الى الدورة المركبة .
ومن الجدير بالذكر ان اغلب انتاج العراق من الغاز الطبيعي حاليا هو غاز طبيعي مصاحب لانتاج النفط الخام حيث تبلغ معدلات الانتاج الحالية 3094 مقمق/يوم يتم استثمار ومعالجة 1519 مقمق/يوم منه في منشآت المعالجة ضمن شركة غاز البصرة (مجمع المعالجة في خور الزبير ومجمع معالجة شمال الرميلة) وكذلك مجمع المعالجة في شركة غاز الشمال والمعالجة ضمن شركة نفط الوسط في منشآت حقلي بدرة والاحدب حيث يتم انتاج ما معدله 929 مقمق/يوم من الغاز الجاف الذي يخصص كوقود لمحطات توليد الطاقة الكهربائية (مع وجود استعمالات اخرى حالية ومستقبلية في القطاع الصناعي والزراعي) مع ضخ كمية (75 مقمق / يوم بشكل مباشر للشبكة من دون معالجة) وكذلك يتم انتاج ما معدله 4316 طن/يوم من غاز البترول المسال (LPG) والذي يوجه للاستخدامات المنزلية وكذلك انتاج 1241 طن/يوم من المكثفات (Condensed) , والمؤسف اننا لازلنا نحرق  كميات كبيرة من الغاز بمعدل 1575 مقمق/يوم وهو ما يعد هدرا كبيرا جدا بالموارد يستدعي معالجات لاستثماره وهو كاف لمنع الاستيراد بشكل كامل .
حينما نقول ان عصر النفط بدأ يرسم نهاياته فهذا لا يعني نهاية استخدامه فمثلا لم ينضب الفحم الحجري في كوكبنا بل انتهى عصر الفحم وتحوّل العالم الى عصر النفط بفعل التقدم التكنولوجي وعوامل الاقتصاد والبيئة وغيرها، وكذلك سوف لن نشهد نضوب النفط بل نشهد قريباً انتهاء عصر هيمنة النفط والولوج في العصر الذهبي للغاز الذي سيعتبر جسراً زمنياً يتجاوز الخمسين عاماً ليدخل العالم عصر الطاقة المتجددة النظيفة الصديقة للبيئة بكل انواعها. 
و قد تكون احد الأسباب غير المعلنة للحرب في سوريا هو الصراع حول السيادة في سوق الغاز الأوروبي تحديداً والعالمي بشكل عام بعدما تأكد أن اكبر الاحتياطات في الكوكب مستقرة في ثلاث دول هي (روسيا وايران و قطر ) قطر التي تشترك مع ايران بحقل بارس الممتد تحت مياه الخليج، حيث تتسابق كلتا الدولتين على استثمار أكبر كمية منه في منافسة ثنائية (ودية ) مع روسيا، ويبدو أن محور الغاز الروسي - الإيراني قد حقّق مكاسب كبيرة خصوصاً بعد الأزمة الخليجية القطرية وانضمام قطر الى هذا المحور. وتكمن خطورة الموضوع في سوق الطاقة ، في أن هذه الدول الثلاث تمتلك 48.5 % من احتياطي الغاز الطبيعي في العالم حيث تمتلك إيران وروسيا وقطر 95.5 ترليون متر مكعب  من إجمالي احتياطي الغاز الطبيعي في العالم البالغ 197 ترليون متر مكعب، بحسب بيانات شركة بريتش بتروليومBPو يشكل الرقم المثبت للاحتياطي العالمي للغاز ما يكفي لتزويد العالم بالطاقة لأكثر من خمسين عاماً على الأقل وبمعدلات تلوث قليلة جداً قياساً بالنفط والفحم .
وقد بدأت قطر محادثات مع طهران لإيجاد حل وسط حول استغلال حقل غاز بارس الجنوبي المشترك وايجاد نوع من الشراكة في تطوير هذا الحقل المشترك الذي يُعد الخزين الأكبر في العالم ويحتوي على 51 ترليون متر مكعب من الغاز، ومد خط  انابيب مشترك من إيران إلى البحر الأبيض المتوسط أو تركيا سيحمل الغاز القطري إلى أوروبا. واعتراف بنك الشعب الصيني رسمياً بقطر كأول مركز في الشرق الأوسط لتصفية المعاملات بالعملة الصينية (يوان ),  وعمليا  بدأت شركة توتال الفرنسية العملاقة بعقد كبير لإنتاج الغاز، تقدّر التكاليف الإجمالية للمرحلة الأولى من المشروع نحو ملياري دولار، بعد أن استمرت النقاشات لمدة 20 عاماً رغم أن الولايات المتحدة لا تزال تفرض قيوداً تركز على منع  الشركات الأميركية  والغربية من الاستثمار في إيران، ومازالت بعض الشركات الغربية مترددة في الاستثمار في إيران التي تواجه عقوبات تمنع الشركات من التعامل مع إيران بالدولار الأميركي. 
وينص العقد بان تمتلك “توتال” حصة قدرها 50.1 في المئة في مشروع حقل (جنوب بارس) الذي تسميه قطر “حقل الشمال”، وستمتلك CNPC  الصينية  30 %، أما شركة بتروباس الإيرانية فستمتلك 19.9 بالمئة.
السؤال المهم هو هل يمكن للعراق ان يكون شريكا في هذه المشاريع الكبرى خصوصا ان العراق ينتمي الى مجموعة ( طريق واحد حزام واحد ) و ان عضوية العراق زادت قوة وتأثيرا بعد توقيع اتفاق الأطار المالي مع الصين وامكانية ان يكون العراق ممرا لنقل الغاز القطري والإيراني الذي يجهز اوروبا عبر سوريا او تركيا. ولأن النفط لن يستمر باعتباره السلعة الأهم في سوق الطاقة، وإن بقاء اعتمادنا عليه سيضعنا أمام فكرة مرعبة  جداً، هي إفلاس دولتنا ثم انهيارها , ولذلك أجد من ضروري ان اعيد ما قدمته من مقترحات في المقال السابق مع وضع استثمار الغاز كأولوية ملحة وعاجلة :-
- اطلاق استثمار الغاز العراقي والمشاركة الفاعلة في نقل الغاز عالميا عبر الأراضي العراقية والبدء بفتح مفاوضات مع قطر وايران وتقديم التسهيلات والعناصر الجاذبة لبناء منصات لاستقبال الغاز القطري من خلال السفن او دراسة امرار انبوب تحت مياه الخليج وربط مصادر الغاز القطري والإيراني بشبكة الغاز داخل العراق وتطوير هذه الشبكة وتوسيعها لتكون قادرة على تلبية احتياجات العراق ونقل الغاز عبر العراق 
الى اوربا .
- التأكيد على توسعة الاتفاق مع الصين ليصل الرقم الى معدل ما بين  (500-300) الف برميل نفط يومياً ومعه ستتوسع المشاريع والبنى التحتية المنتجة للقيمة المضافة  و البدء بعقد اتفاقات مشابهة مع دول متقدمة أخرى، مثل(الولايات المتحدة وفرنسا وكوريا الجنوبية والهند ) ودول في الشرق الأوسط مثل مصر .
- البدء بمفاوضات واسعة لبيع جزء من صادرات العراق ( وفق تجربة المكسيك) بسعر ثابت ولمدة لا تقل عن 20 عاماً لنضمن ايرادا ثابتاً للعراق , ونترك الجزء المتبقي لعوامل العرض والطلب في السوق وهذا قد يدفع العراق الى الخروج من منظمة أوبك لاحقا , وقد يكون الوقت المناسب بعد عودة اسعار النفط للصعود مرة أخرى.
- تعديل قانون الاستثمار النفطي (قانون الاستثمار في المصافي) الذي ولد ميّتاً في عام  2007، وان يشمل التعديل الصناعات البتروكيمياوية بالإضافة الى المصافي وغيرها من المشاريع النفطية , وكما هو معلوم  ان سعر برميل النفط سيتضاعف عدّة مرات اذا تحول الى منتجات نفطية او سلع بتروكيمياوية.
واخيرا ومن باب الاطلاع فقط و بعيدا عن الغاز الطبيعي الحر او المصاحب وقد يبدو الحديث نوعا من (الخيال العلمي )  حاليا , فهناك تطلعات علمية كبيرة لكنها لازالت غير مجدية اقتصاديا فضلا عن مخاطرها البيئية الكبيرة لكن قد يكون الحديث عنها امرا طبيعيا بعد مرور 20 سنة , فنحن عادةً نتكلم عن الغاز الطبيعي المتوفر في حقول مستقلة وقريبة من سطح الأرض نسبياً، و هو ما شمله كلامنا عن احتياطات الغاز المثبتة من قبل BP ،  المثير جداً أن هناك جانباً آخر من القصة قد نفذ إليه العلم في مجال كان بعيداً تماماً عن فكرة استثماره وهو (الغاز المائي) حيث اعلنت اليابان ان البحوث والدراسات توصلت الى استخراج الغاز المائي من قاع البحر وهذا النوع من الغاز يتواجد في ماء متجمد في أعماق تتجاوز الـ 500 متر وهو ينتج من اتحاد الغاز والماء تحت ضغط عال وحرارة منخفضة وينتشر بشكل واسع في قاع البحار في طبقة صلبة تشبه الزجاج أو الجليد  التي تحتوي على كميات كبيرة من غاز الميثان الذي يتحرر من الماء على شكل فقاعات ضخمة متى ما تتغير عوامل  الضغط أو الحرارة 
أو كليهما .