أصبحت الطبيعة الصامتة مشغلاً إبداعياً لعدد كبير من الرسامين العالميين، كجنس إختص برسم الأشياء والعناصر المحيطة بالإنسان وفق نظام وتكوين وبناء لا يقتصر على الأشياء الجامدة، بل المتحركة في الطبيعة (الازهار، الثمار، الأطباق، الأباريق ، الملابس، الديكور، الأثاث). ظهر مفهوم الطبيعة الصامتة مستقلاً منذ القرن السابع عشر، وبلغ عصره الذهبي في القرنين الثامن والتاسع عشر، وحتى القرن العشرين ، وكانت فرنسا مركز هذا الفن، وبرع فيه كبار الرسامين مثل سيزان وديلاكروا وبيكاسو، وغوغان وفان كوخ، وكانت أغلب موضوعاتهم رسم الطبيعة والشمس والبراري والخلجان والسهول والمزارع وغيرها، وواجه هذا اللون من الرسم والإتجاه كغيره من الفنون الحديثة رفضاً من الأكاديميين، وعدم إستيعابهم هذه الدفقة الجديدة من الفن التي تمور ببهجة اللون.
إن فنانين من أمثال دافنشي ورمبرانت وغويا كانوا في حياتهم متأملين إستهوتهم الطبيعة ومشاهد الحياة، مسحورين بأعمال راحوا يقلدونها، ويعد (ماتيس) في مقدمة فناني الطبيعة الصامتة، إذ أصبح التصوير خلقا لمعادل موضوعي للتجربة التي يخوضها الفنان مع الأشياء، أي لإنعكاس الحقيقة المرئية على حواسنا، فإناء الزهر ليس في مخيلة الفنان شيئاً، بل هو مجموعة إنطباعات وأفكار لونية وخطية، فهو مخلوق معنوي ليس مطابقاً لإناء الزهر الواقعي.
الحقيقة المرئية في وجدان الفنان، ورؤيته مجموعة من النسب والروابط والأشكال قد تقترب من الواقع، ولاتنفصل عن جذورها، لكنها بألوان الرسام تتحول إلى كائن جمالي قائم بذاته. الطبيعة الصامتة تتمتع بإستقلالية فنية كم أشرنا، على الرغم من توظيفها في أحد مراحل تطورها لمعانٍ رمزية، أو ضمن الحلول التزينية والزخرفية. فرض ماتيس على نفسه منهجاً صارماً، بأن يقف أمام الحقيقة المرئية ويفتح عينيه لها، ولا يقصيها عن إهتمامه قط، وعد نفسه أن يتعلم كيف ينظر مخضعاً حواسه لصنوف الحقيقة، لكنه لم يمنعها من ان يكون إنساناً حساساً يرى، لا آلة صماء تسجل، لذا فهو يرسم بعقله، ويخلص إلى معالجات في مجال صنعته، والى نتائج جمالية جديدة ومبتكرة، محققا بذلك مطلب الفن الأول، الأصالة والمعاصرة.وتلخصت حلول ماتيس ونتائجه في أن يلتقط جوانب العالم المرئي بقليل من الخطوط والألوان توضع على عجل، لغاية الوصول الى الدقة قبل أن يضع موضوع لوحته بضربة واحدة من فرشاته أو قلمه.
لماذا الصمت كموقف فني؟ الصمت ليس فراغاً كم يعبر عنه الروائي الانكليزي الدوس هكسلي، الصمت مليء بالأجوبة، الرسام إذاً يبحث عن الجوهر الخفي للموجودات، يستخلص قوتها على التعبير، هي تلك الجمادات التي تتحدث عن صمتها، حديثاً أبلغ من كل ثرثرات العالم، وهناك روح نابضة في الحياة الصامتة، وبوح بلا كلمات. ممثلو هذا الإتجاه ركزوا نظرهم على عدد من المرئيات، حاولوا أَن ينطقونها، والمرء يحتاج أن يغمض عينيه عن الطبيعة الخارجية ليغوص في أعماق نفسه ويكتشف مجاهل جديدة. جورج براك أحد مجددي الفن في القرن العشرين مع زميله بيكاسو، أحالا العناصر المحيطة بالطبيعة الى أشكال هندسية(مثلثات، مستطيلات، دوائر) كان الرسام يريد الوصول الى المعنى ذاته، دون أن يبذل جهداً في البحث عن معنى العالم، وإستقصاء أبعاده، بل أجاب عن تلك الأسئلة التي كان يطرحها المتلقي أنذاك في مطلع القرن العشرين، ولم يكن بمستطاعه يوم ذاك غير الإستدلال بالطبيعة للوصول إلى أجوبة مقنعة.الطبيعة الصامتة،في أغلب الأعمال، أشياء محدودة، تسبح في سكون وعزلة، وتغتسل بضوء حالم وناعم، يكاد يوحي بأنه نابع من داخلها، ويحدد خطوطها الخارجية وكتلها. في تجارب الرسامين الرواد العراقيين ما يكشف عن تمثلات رائعة للطبيعة الصامتة في أعمال عبد القادر الرسام وأكرم شكري وعطا صبري وحافظ الدروبي وخالد الجادر وغيرهم سنتناولها في المقبل من الأيام.