المختلف في زمن المألوف

ثقافة 2020/05/12
...

 
هدية حسين
 
 
 حنجرتها بلا وزن، هي التي تقول ذلك، لأن مرويات الزمن أصبحت مكررة، فبحثت عن شيء مختلف يناسب تلك الحنجرة، لتخرج بذلك من الغرف المظلمة التي ألفتها العيون ودمغتها العقول إلى رحابة أوسع وأعمق قد لا تناسب الكثيرين، لأن الكلام الذي تكتبه ابتهال بليبل "يخدش" الذائقة المألوفة.
في كتابها الأول "جسدها في الحمام" أحدثت صدمة عند المتلقي بما احتواه من صور خارجة عن السائد، وفي كتابها الثاني صدمت القارئ منذ العنوان "نيكروفيليا بشريط ملون "  فما الذي تريد أن توصله ابتهال بليبل في هذا الكتاب؟ 
أتذكر عندما صدر كتاب "جسدها في الحمام" وشاهدته جارتي سألتني مستنكرة: ما هذا العنوان المستفز؟ واستعارته لكي تقرأه قبل أن أقرأه، ثم أعادته في اليوم نفسه من دون أن تتم قراءته، لتقول لي: نحن مجتمع محافظ.. فلم أعلق، فجارتي امرأة بسيطة حتى أنها لا تقرأ الكتب الأدبية إلا نادراً، لكن الجسد الذي في الحمام أثار فضولها، وهي مثل كثير من النساء تقبلن الواقع الذي وجدن أنفسهن فيه، وتبنّين سلوكاً يرضي "المجتمع المحافظ" وهن سعيدات وراضيات بما هن عليه.. ترى ماذا ستقول جارتي إذا ما عرفت أن كلمة نيكروفيليا تعني مضاجعة الموتى؟
الكتاب الذي صدر بـ 211 صفحة من القطع المتوسط، عن منشورات أحمد المالكي، يضم في صفحاته قصصاً ومقالات  تتناول المرأة الوحيدة،, حياتها القاسية، ودورانها في حلقة مفرغة من دوامة الحياة، محاصرتها بالممنوعات والقوانين الجائرة والانصياع لها، وكذلك  سعاداتها المستعارة وشخصياتهن الممحوة من الحاضر.. 
هذه أمور مألوفة، فكثير من الكتابات تناولتها ، لكن غير المألوف هو الأسلوب الذي كُتبت به، الكلمات التي تراصفت لتكون صرخة لا تشبه صرخة الأنثى المألوفة بل تلك المدفونة في الأعماق ولا يُسمح بنبشها، الحروف التي تشبه السكاكين أو المشارط الباشطة لتعرية المسكوت عنه بطريقة مبتكرة لا تستند الى الخطابات الجاهزة بل الى التفكيك والتحليل.
لغة ابتهال بليبل لا تشبه لغة أخرى، لغة خاصة بها تتجاوز السائد لتشكل صوت كاتبة ابتكرت أسلوباً خاصاً بها ليكون هويتها في الوصول الى المتلقي بطريقتها هي لا بما ألفه من طرق السرد، فاختارت أن تكتب سرداً بلغة غير مألوفة في زمن السرد المألوف، وما على المتلقي إلا أن يعيد لذائقته نكهتها المختبئة تحت أكداس المألوف ويعيد للمرأة جوهرها المدفون منذ آلاف السنين تحت عباءة العيب لكي ترضي المجتمع "المحافظ" الذي يعمل في السر ما يخدش الحياء كله لكنه مقنّع بألف قناع، بينما النساء يُضعن عمرهن ليرضين  من يتسيد هذا المجتمع ويقوده على خطأ ارتدى بمرور الوقت صفة الصواب، لابد من مسايرة القطيع ليرضى الراعي، وبمرور الوقت أيضاً اقتنعت النساء بأن الحياة ستقذف بهن إنْ هن خرجن على الأعراف، حتى وإن فعلن في الخفاء ما يرغبن فيه، فالمهم هو المحافظة على رداء الفضيلة المتعارف عليه، غير مدركات بأن الفضيلة هي أن يحافظن على ذواتهن من الانشطار ويُعلِن رغباتهن من دون مواربة، ويظهرن جوهرهن الذي طمسته التقاليد، لا أن تنسى بأنها أنثى.
تعترف كثير من النساء للكاتبة التي وثقت حكاياتهن بأن حياتهن لم تسر بشكل طبيعي وان (الحروب العبثية الطويلة، والحصارات، ومن ثم الصراعات الطائفية، وحوادث التفجيرات الإرهابية، ومعارك استعادة المدن من سيطرة داعش، والنزوح والهجرة، وغيرها من الأمور السياسية والاقتصادية والاجتماعية، اسهمت في تغيير سلوكهن وأفكارهن بطريقة تعكس شعورهن الصارخ باليأس والإحباط والحاجة)ص28
وهناك حكايات النساء المعنفات من قبل الرجال، النساء الغائبات عن الحياة، المُخْفيات رغباتهن عن المجتمع، المكتويات حد الجمر المستعر الذي يحولهن الى رماد، وهن قانعات بالرماد طالما يضفي عليهن المجتمع هالة "المرأة المطيعة" هذا المجتمع الذي يعاني من أمراض نفسية أسقطها على المرأة، لكن التطرق إليها يقع ضمن المحظورات، ومنها النيكروفيليا التي نتقبلها ربما كفكرة في فيلم، لكن أجراس الخطر تدق حين تبرز تلك الفكرة من خلال الواقع ومن دون أن ندرسها لنضع لها الحلول، بل نعمقها بطريقة قد تبتعد عن المعنى المباشر لكنها تصب فيه، فالمرأة التي لا تجد هي وزوجها سكناً إلا قرب المقابر، يصبح الأمر طبيعياً وهي تتزين وتحلم وتلتقط الصور بالقرب من القبور وتنام مع زوجها ولا تعير اهتماماً للأموات الذين يجاورونها (اقرأ حكايتها على الصفحة 63 تحت العنوان الذي أخذ منه عنوان الكتاب)
أما قصائد النثر التي تتخلل الكتاب فقد عبرت بها ابتهال بليبل الى تخوم المعنى العميق للذات حين تتعالى على المحظورات لتعلن عن ما خفي في بطانة جسد المرأة الذي أرادوا له أن يصدأ فصدأ من تكرار الوصايا العقيمة ويافطات الممنوعات لتعليب المرأة.
"نيكروفيليا بشريط ملون" كتاب يجب أن تقرأه كل امرأة.. وكل رجل أيضاً، من أجل حلحلة الكثير من الأمور التي أصبحت ثوابت بفعل قناعات خاطئة أو تسريبات من أزمنة سحيقة لا تناسب العصر.