القاضي ناصر عمران الموسوي
مضطرا ً وجد العالم نفسه مستوعبا للصدمة والذهول التي احدثها فيروس كورونا، بالرغم من التضحيات الكبيرة التي قدمها على المستويات جميع البشرية والمادية واذا كانت مساحات ومناخات الحرية متسعة وكبيرة في العالم المتقدم فإنها اضمحلت لتترك للطارئ والمتغير فرصته لتشكيل فضاءات ومناخات جديدة من العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية.
وبالقدر الذي نجحت فيه العولمة بفرض عالمها باعتبار (العالم قرية صغيرة ) فان ما احدثه الفيروس من عوالم واقعية كان اكثر نجاحا وتأثيرا بكثير ، فقد فرضت الارادة الوبائية للفيروس رغبتها السريعة وغير المتوقعة، ففجأة ً وجد العالم نفسه امام حجر صحي ومنزلي وتوقفت الحركة الهائلة لوسائل النقل فتوقفت معها حركة الجديد واستمرارية الراهن، فصار السكون لغة العالم وسلاحه الوحيد امام مهاجم شرس لا يؤمن بحدود الجغرافية و طوع الزمن كيفما يشاء.
وامام كل ذلك وباستمرارية العجز المختبري عن ايجاد مصل وقائي وعلاج دوائي فان فرضيات متعددة وجدت طريقها للاستحواذ على اليومي ومنها الفرضية الوقائية العالمية وهي استراتيجية (التباعد الاجتماعي ) ولان هذه الفرضية خرجت من جلباب النصح والارشاد الى لباس الفرض
والالزام.
فقد شكلت النصوص العقابية احدى ادوات الردع القانوني لمعالجة مخالفات حظر التجوال و الحجر الصحي والمنزلي ، الا ان الحال الطارئ والمؤقت لا يمكن ان يكتسب الديمومة والالزام وكلما اخذت قوانين الحجر الصحي والمنزلي وحظر التجوال فترة زمنية طويلة كلما كان الفرد اكثر خرقا ومخالفه لها ، فلا يمكن للحرية وممارسة النشاطات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ان تكون مرتهنة الى المؤجل والمستقبلي غير المضمون ،لذلك صار لزاما على العالم وضع قوانين جديدة للتعايش مع هذا الوباء ضمن ستراتيجية (التباعد الاجتماعي ) والتي يشكل تشريع قانون التباعد الاجتماعي احد اهم متبنياتها. ان فرضية اقامة علاقات اجتماعية جديدة متوائمة مع الراهن الجديد ليست متبنى امزجة جمالية او تغيير مرحلي شكلته اجندات ذات دوافع سياسية او اقتصادية او اجتماعية او ترف تنظيري فكري معاصر بل هو واقع مفروض قسرا ً والتباعد الاجتماعي يتطلب بقاء الناس في منازلهم وإيقاف جميع الأنشطة والتجمعات، مما يعني إجبارهم على العمل من المنازل والدراسة.
يقول درو هاريس، الأستاذ المساعد في كلية الصحة العامة بجامعة توماس جيفرسون: "نحن نتحكم برغبة التواجد في الأماكن العامة من خلال إغلاقها. إيطاليا تغلق جميع مطاعمها، الصين تغلق كل
شيء. ونحن أيضا نغلق بعض الأماكن الآن"، مؤكدا أن "تقليل فرص التجمع يساعد الناس على تطبيق التباعد الاجتماعي" طبقت المحاكاة على افتراض السماح لشخص واحد من كل ثمانية، بالتحرك، فبدا أن ثلاثة أرباع السكان سيبقون في أمان، وأن فقط نحو 50 شخصا من أصل مئتين سيصابون بالمرض. وبتطبيق المحاكاة الافتراضية على الحالات الأربع؛ وهي الحرية للجميع في الحركة، والحجر الصحي القسري، وتطبيق "التباعد الاجتماعي" المحدود، ثم المكثف، يتبين أن تطبيق ستراتيجية "التباعد الاجتماعي" المكثف من قبل الناس أنفسهم، والإجراءات الاحترازية مثل إغلاق أماكن التجمع، هي أمور أكثر فعالية من الحجر الصحي القسري.
وعلى ضوء ذلك لابد من وجود تنظيم قانوني لممارسة الانشطة والتجمعات في المنازل او خارجها لان زمن ما بعد كورونا ليس كما قبله، ولعل المسافة التي اوجدتها بعض المحال التجارية والمولات بين المتبضعين واحدة من الحلول التنظيمية، اضافة الى طريق التبضع.
كذلك الامر ينسحب على المصانع والمعامل والشركات وحتى وسائل النقل صار لها نظام خاص وكذلك العمل في دوائر الدول وعقد الاجتماعات والمهرجانات والمؤتمرات كل ذلك لا بد من له من تنظيم جديد يتعايش مع ما فرضه الوباء من وضع جديد، قد يبدو تشريع قانون التباعد الاجتماعي بالكيفية التي نراها امرا سابقا لأوانه لدى البعض لكنه بالتأكيد وضع يفرض نفسه على الاقل للسيطرة على حالة التمرد التي قد تحدث مع استمرارية فرض الحجر الصحي والمنزلي وحظر التجوال ،
لا جدال ان القانون منتج التحضر واساس التركيب التنظيمي كما هو القوة الواجب تحققها في المحافظة على الامن العام من الخرق والانتهاك ، لكنه ايضا ً لا بد من ان يكون مستوعبا ومتماهيا علاجيا مع حالة الظاهرة وهي فيروس كورونا وتنظيمها للمحافظة على السلامة والطمأنينة العالمية الا أن تقول المختبرات الدوائية العالمية كلمتها في الوقاية
والعلاج. .