بين القصيدة الومضة والملحمية

ثقافة 2020/05/17
...

 أحمد الشطري
 

ثمة مسافة شاسعة بين القصيدة الملحمية والقصيدة الومضة سواء في المسار الزمني ام في المسار التقني، فمن بين اهم مميزات القصيدة الملحمية هو طولها وتشعب موضوعاتها و احتواؤها على حدث او احداث درامية، كما انها زمنيا ربما تعد من بين اقدم ما انتجه الخيال الشعري والسردي الانساني. 
 في الوقت الذي يعد مصطلح القصيدة الومضة من المصطلحات الحديثة تنظيريا غير اننا لا يمكننا القول ان  التراث الشعري يخلو من نماذج تطبيقية تعبر بشكل ما عن جوهر المفهوم النظري للمصطلح، من حيث التكثيف في تقديم الصورة الخالقة للدهشة والمتضمنة للمعنى بكامل خفاياه سواء كان منظورا او مضمرا، ففي تراثنا الشعري العربي - على سبيل المثال- الكثير من النماذج التي تعد مثالا جديا لهذا المفهوم، وبقراءة بسيطة لنماذج من القصائد العربية سنلحظ انها غالبا ما تتألف من أبيات يمثل كل منها وحدة مستقلة من حيث تكامل الصورة أو استيفاء المعنى. لقد ارتكز بناء القصيدة الومضة على عملية التكثيف الصوري والدلالي واشراك القارئ في عملية خلق نص متخيل مواز للنص المقروء من خلال تفكيك دلالاته وفتح فضاءات الصورة المختزلة، ولا شك أن عملية انتاج نص قادر على فتح آفاق جمالية وابهارية واسعة في مخيلة القارئ ليست بالعملية الهينة، فكيف سيكون الأمر إن رافق ذلك عملية اختزال لغوي كبير؟ لاشك ان ذلك يحتاج الى قدرة تصويرية ومخيلة شعرية فائقة تمكن الشاعر من تقديم ذلك النص القادر على خلق عملية عصف تفاعلي في ذائقة القارئ. وبالنظر في ما سبق سنحاول القراءة في مجموعة الشاعر حبيب السامر الموسومة (على قيد الحبّ) والصادرة عن دار الروسم عام 2018، والتي ارتأى فيها الشاعر ان يقدم لنا أنموذجا تجريبيا حاول فيه ان يزاوج بين الأنموذج الملحمي بإطاره (الشكلي العام) وليس غيره، وقصيدة الومضة بمفهومها الخاص، وهذا ما تتطلب منا قراءة تفاعلية باحثة عن العمق الدلالي والجمالي لكوامن النص. ولعل أول ما يقابلنا قبل ان نلج الى فضاء هذه المجموعة، هي تلك المتعالية النصية التي تشير الى أن المحتوى هو قصيدة واحدة، الا اننا سنجد عند قراءتنا لما انطوت عليه، ان  ذلك المحتوى مقسم الى نصوص عدة ، تقع تحت متعاليات نصية تفصل بعضها عن بعض، وأن تلك النصوص تنطوي على نصوص قصيرة (ومضات) جرى ترقيمها بشكل متسلسل، متجاوزا فواصل المتعاليات الرئيسة؛ لتصل الى مئتين واثنتين وعشرين 
ومضة.
و بالتأمل في البعد الدلالي لهذا الرقم الزوجي الذي يشكل الرقم (2) صورته الظاهرة، سنجد اولى الاختزالات الدلالية؛ اذ انه يمثل بعدا ايحائيا للعلاقة الثنائية بين طرفين، يشكل الحب خيطا جامعا لهما. 
وما ان نبدأ بالدخول الى عوالم النص حتى تواجهنا متعالية نصية اخرى هي عبارة عن ومضة شعرية بالغة العمق، يقول السامر فيها:( ما جدوى كل هذا الهواء وانا أختنق)، نلحظ ان هذا النص يفتح لنا فضاء دلاليا ينطوي على مساحة واسعة من تناقضات الحياة، وهو يعبر عن فعل احتجاجي فلسفي كوني بحت، اذ انه كما يبدو يرتبط بالفعل اللا إرادي وليس بالفعل الإرادي، فعملية التنفس والاختناق عملية لا إرادية ولو كان ارتباطها بالفعل الارادي لكان احتجاجا ذاتيا يرتكز الى عجز ذاتي، وهذا ما يكون نتاج خلل في القدرة الفاعلة للذات وليس القدرة المتفاعلة. ومن هنا تبرز لنا القيمة الحقيقية المتحصلة من العمق الصوري والدلالي للنص. 
ولعل من ضمن ما يجدر بنا ان نشير اليه هي تلك النصوص المكثفة التي تنطوي على متناقضات تنفتح على رؤى واسعة الافق وعميقة المدلول، ولعل في ذلك تمثلا حقيقيا للقول الشائع ( كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة). ومن ذلك قوله» شرفتك ملاى بالزهور/ لماذا تستبد بك الوحشة؟» وقوله» الآن/ بمنتهى الدمع/ اشحذ بقاياي/كي نزهر مثل نبض» هذه الومضات التي ترسم بعبارة مكثفة ابعادا ووجوها متعددة من الصورة، مشكلة القاعدة الأولى لانطلاق ما يمكن ان نسميها (الجذوة او القدحة ) التي تهيئ لاشتعال الغابة  ولنأخذ مثلا  قوله» كلُّ هذا الاحتشاد  في روحي/ وأنا أرقص وحيدا» فالقاعدة الأولى التي يقدمها لنا في هذه الومضة هي صورة (الاحتشاد) فما تعكسه هذه الكلمة من دلالة تنبئ بتراكم عددي أيّا كان محتواه بيد أننا نصطدم بنتيجة لا تتناسب مع اصل القاعدة ( أرقص وحيداً) هذا الجمع بين المتضادين (الاحتشاد والوحدة) هو الفضاء الذي تحترق فيه غابة المتخيلات الصورية  لتخرج من اطرها الثابتة وتتحول الى طاقة اخرى.
ومما يلاحظ ايضا ان حبيب السامر يعمد في بعض نصوصه هنا الى عملية تكرار بعض الكلمات متخذا منها لازمة تربط بين سلسلة من النصوص من مثل:
« لا أجيد الانتقال سريعا...
لا أجيد العزلة ...
لا اجيد ترتيق الحكايات...» 
أو قوله:» بما لا يطاق / سنقبل بالأفواه الجهنمية....
بما لا يطاق/ نستل خيطا من شمعة.. الخ
او لفظة (ما جدوى) في نص (اللا جدوى)، وهذا التكرار القصدي لهذه الألفاظ، وجعلها لازمات تبدأ بها بعض النصوص، هو مغامرة يمكن ان تفضي الى نتيجتين: احداهما سلبية تؤدي الى حالة من الملل والرتابة لدى المتلقي، واخرى ايجابية تخلق نوعا من الترابط الصوري والدلالي بين النصوص المتتالية. 
وكلتا النتيجتين تعتمدان على ذائقة المتلقي اولا، وقدرة الشاعر على توظيف التكرار بشكل يمنح النص طاقة ايجابية تشد المتلقي اليه، واحسب ان الشاعر حبيب السامر قد نجح في اضفاء تلك الطاقة بشكل ملحوظ.
بقي ان اشير الى أن الشاعر السامر، استطاع ان يقدم لنا في مجموعته هذه نصوصا نجحت الى حد كبير في ان تتمثل جماليات القصيدة الومضة بشكل واضح؛ يستحق الثناء والأعجاب، ولو لم يكن فيها سوى هذا النص الذي يقول فيه:» ما جدوى كل هذا الهواء/ وانا أختنق!» لكفاها جمالا وابهارا.