الأستاذ الدكتور فهد محسن فرحان يودعنا عن 70 عاماً

ثقافة 2020/05/19
...

البصرة/ صفاء ذياب
 
 
 
(على غير عادته
يستيقظ الصباح ولا أقول يشرق
فالشمس لم ترفع رأسها بعد
الطيور لم تغرد بعد
والأغاني نائمة
والقصيدة التي أخبرتك
أن أكتبها في الصباح ....
صباح السبت
لم تنهض من مخدعها
أشعر بحدوث شيء ما
صور وأخبار تملأ الفيس
وكلها تشير إلى وفاة المعلم الأول
الدكتور فهد محسن فرحان..)
 
هذا مقطع من القصيدة التي رثى فيها الشاعر كريم جخيور أستانا ومعلمنا الأستاذ المتمرس الدكتور فهد محسن فرحان الذي فجع طلبته ومحبيه برحيله عن سبعين عاماً صباح يوم السبت الماضي.
ويكمل جخيور قصيدته:
 
بالأمس كتبت عنه
أناشد المحافظ أن يتدخل
رئيس الجمهورية
رئيس الوزراء أن يتدخل
وزير الصحة أن يتدخل
ولكن الله تدخل قبلهم
أخذ أمانته
وقضي الأمر..
 
 
 
 
 
فرحان الذي عمل في التدريس منذ أكثر من أربعين عاماً، وتخرج على يديه آلاف الطلبة، فضلاً عن إشرافه ومناقشته لمئات رسائل الماجستير وأطروحات الدكتوراه، لم يتوقّف نبضه بالحياة على الرغم من إحالته على التقاعد قبل سنوات، لذا كان رافضاً أن يجلس في البيت كعاجز، وهو الذي يملك أن يقدّم الكثير لطلبته، فاختارته الجامعة كأستاذ متمرّس في كلية التربية/ القرنة، شمال مدينة البصرة.
وبعيداً عن التدريس الذي يرى كل من تتلمذ على يديه أن درسه كان نموذجاً للمتعة المعرفية والإنسانية في الوقت ذاته، قد كتب فرحات مئات البحوث الأكاديمية، وأصدر كتباً عدّة، منها: (القصة القصيرة في الشعر العراقي الحديث)، و(الإبلاغ الشعري المحكم .. قراءة في شعر محمود البريكان)، فضلاً عن دراسات تناولت المناهج والنظريات النقدية، وكان يعد أكثر من كتاب لطباعته، إلا أن انشغاله بالبحث والتدريس حال دون إكمالها قبل وداعنا الأخير.
هذا الوداع الذي كان سببه الرئيس حب أستاذنا فهد محسن فرحان للحياة وطلبيته، حتى بعد تأكيد الأطباء له بأن عليه أن يعتني بنفسه، ويرتاح قليلاً من تعب المحاضرات، ومشاركاته التي لم تنقطع في الفعاليات الثقافية بالبصرة، مثل فعاليات اتحاد الأدباء والكتّاب، والتجمع الثقافي العراقي الحديث، والمؤتمرات التي تقيمها جامعة البصرة، وسفره الدائم للمشاركة في مناقشات رسائل الماجستير وأطروحات الدكتوراه في الجامعات العراقية الأخرى.. 
ففرحان الذي ولد في قضاء الزبير غرب البصرة في العام 1950، حصل على شهادة البكالوريوس في كلية الآداب جامعة البصرة العام 1972 ، وحصل على شهادة الماجستير العام 1987 والدكتوراه العام 1996، أما درجاته العلمية، فقد أصبح أستاذاً مساعداً في العام 2001، وحصل على درجة الدكتوراه قبل تقاعده في العام 2015. هذا العام الذي كان فارقاً في مسيرته العلمية، إذ زادته هذه الدرجة العلمية حضوراً في الوسط الثقافي الذي اقتحم أبوابه منذ سبعينيات القرن الماضي، إذ بدأ شاعراً، لينتقل بعد ذلك إلى مجال النقد، فاهتم بشعراء البصرة، وأنجز أكثر من دراسة عن الراحل حسين عبد اللطيف، وأشرف على أطروحة دكتوراه كتبها تلميذه ورفيقه الذي لم يفارقه يوماً واحداً، الدكتور حسين 
فالح.
كوّن فرحان علاقة صداقة وأبوّه مع طلبته، بل كانت له صداقات حتى مع الباحثين الجادين الذين لم يدرسّهم أو يشرف عليهم، فما إن كان يتوسّم بأحدهم بذرة باحث، حتى يدعمه، ويسهم في تكوين شخصيته العلمية
وفي هذا يقول أحد طلبته، حميد الشيخ، الذي أصبح أستاذاً فيما بعد: (رحلت! أتمكن الآن من رؤيتك تغادر، تشق طريقك من فوق الغيوم صاعداً، تنظر نحو الأرض، أعرف تلك الابتسامة المحمّلة بألف معنى ومعنى، ذلك الحس المرهف وأنت تتلمّس الأمور بذهنك وفكرك، سحنة الجنوب، ولكنة الزبير، مضيف قلعة سكر، ولهجة الصرايفيين، وتأريخ من العناء المفضي إليك.. رحلت!! ولم تكمل لي حكاية الـ( المريبحاني والنص دينار) والإخوة (الشواغيل). 
رحلت وأنت تصف لي خزامة امرأة صنعت رجلاً بحجم فكر، كنت قد اشتقت إلى حكاية المرأة اليهودية في العشار، (لا يخرجون للتبضّع يوم السبت ولا يطبخون، كانت الدراجة الهوائية تطوي الإسفلت باتجاه حنّا الشيخ، والسابلة ينظرون إلى فتى يلوي عنان الريح بمقود يتيم، يتصفّح وجوه الأطفال الماشين خلف آبائهم أو أولئك الممسكين بعباءات أمهاتهم، يرشفون من أكياس (الجامد) وشفاههم حمر، ما زالت ريح السموم في العشّار تخشّب شفتيه وهو يشق الزحام بدراجته، ترى كيف لك أن ترحل ولم تكمل لي حكاية الليل وخبز التنّور وأصابع أميرة الخبز!! 
حدّثتني عن رفاق مهووسين بالله وبقيم الدين، كانوا صعاليك بين أقرانهم، عن امرأة تتوشّح بـ(فوطة) بيضاء تحفظ نهج البلاغة!! 
(كانت تشرب النهج، تلوك المعاني، النسوان يحفظن زين خاصة الأوليات). أتمكّن من أن أسمعك الآن تتنهد كثيراً، يعلو جبينك سحب دخان السيجارة، تدور عيناك في المكان بحذر، تصوّب عينيك جهتي وتهمس: (مع الأسف يا حميد ما كنّا نتصوّر أن تكون الأمور هكذا، راح البلد.. راح). 
الطلبة المارّون بممر قسم اللغة العربية يتطلّعون إلى صومعتك، شيء من عبق تاريخ البصرة والناصرية والعراق، قلمك المثبّت (بجيب السترة) تخطّط به على الورق حركة النقد، وتشرح به نظرياته، سأذكرك وأنت تصعد هذه الليلة إلى راعي الإحسان أن محفظة نقودك كانت مشرّعة لمن يريد أن يشتري قميصاً من الطلبة، أو يستقل سيّارة إلى أهله في المحافظات، هل تذكر سخاءك لمجلّة أسستها أنا وكنت راعياً لها؟ نعم أفنان، كنت أنت من يموّلها من دون أن يعرف أحد، الله وأنت وأنا، أين تتّجه في هذا الليل؟ لقد سرت طويلاً باتجاه السماء، اسمح لي أن اسألك عن تلك الطيور البلورية التي ترافقك الآن، وعن الوشاح الأبيض الذي يلتف حول جسد، ترى ما هذه الأصوات الشجيّة التي ترافق روحك، أهي تنعاك؟ أم تنبّه من ستلتقيهم أنك قادم؟ أتذكر آخر لقاء لي بك، اتصلت بي قبل اللقاء: (حميد، عندي مناقشة في كليتكم بعد أسبوع، شلونها الأوضاع يمكم؟ أريد أشوفك ضروري، أريد أحجيلك هواي شغلات، ها يبه...) 
دخلت القاعة لأراك على المنصة أسداً، تبسّمت لي وأنا أرفع يدي إليك بالسلام وأنحني لوجودك إجلالاً وإكباراً، كنت تتكلم بعينيك قبل لسانك، أبحرت في النقد، شربنا منك عذباً رائقاً، وصوتك يجلجل في القاعة يأخذني إليك في غرفة الدرس بجامعة البصرة شوق، ويلفّني ألف معنى ومعنى لرجل مزج العلم بالحب والرحمة والتواضع... 
السيارة التي أقلتك قافلاً إلى الزبير دارت دواليبها على الإسفلت تلتمع على حرارة الشمس فيه، كانت تسجّل آخر لقاء، آخر كلمات (إن شاء الله نتشاوف أبو ماجد) لوّحت بيدك وساد صمت..