بيت الحكمة العراقي.. المعنى والبديل

ثقافة 2020/05/20
...

جمال العتّابي
 
أجد في وضوح الأهداف التي حددها القانون رقم (١١) لسنة ١٩٩٥ لبيت الحكمة العراقي، ما يبرر العديد من الأسئلة التي يطرحها المتصدي لهذه التجربة، وهو يتتبع عوامل نجاحها، أو إخفاقها، في مرحلتين، قبل وبعد عام الاحتلال ٢٠٠٣.  وأول تلك الأسئلة يتعلق بمعنى التأسيس.
فهل ورد في عقل المؤسسين ما يتطلب تجديده في الثقافة وغاياتها وطرائق نشرها؟ وما محرك هذا التحول؟ إذا كان وارداً في الحسبان الوعي التخطيطي الثقافي، المدعم بالإحصاءات الدقيقة في حساب النتائج ومردودها الفعلي على هذا الواقع.
على وفق هذه المسلمات، هل بالإمكان القول ان (فكرة) تأسيس بيت الحكمة العراقي جاءت منسجمة مع تلك الأغراض.؟ أم ان هناك نوايا ومتبنيات أخرى (غير الثقافية)، كانت هي الأرجح في الأسباب الموجبة للتأسيس؟
إنَّ قيمة بيت الحكمة تكمن في المعنى الذي يحمله تاريخياً وحضاريا، فالقانون أشار الى الغاية من تأسيسه، وهي إحياء بيت الحكمة العباسي، أو كما يسمى في حينها، خزانة بيت الحكمة الذي أسسه الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور في بغداد، وأكمل رعايته حفيده هارون الرشيد، ومن بين الأهداف، العناية بالبحوث والدراسات المهتمة بتاريخ العراق والحضارة العربية والإسلامية، وحسب موقع بيت الحكمة الالكتروني، انه يعنى بإرساء منهج الحوار بين الثقافات والأديان، وإشاعة ثقافة السلام والحوار، وقيم التسامح الديني والتعايش بين الأفراد والجماعات.
بتقديري ان ما تمتع به بيت الحكمة من إمتيازات إستثنائية، ودعم حكومي بلا حدود، يفوق بكثير ما توفر لمؤسسات أكاديمية وعلمية مماثلة، في المرحلتين اللتين أشرنا اليهما، كالمجمع العلمي مثلاً، والتي كانت تعاني من شح الموارد المالية، بسبب ظروف الحصار الاقتصادي المفروض على العراق، فتراجعت تلك المؤسسات عن أداء دورها وتحقيق مهماتها العلمية والفكرية.
إنَّ هذ التباين في الدعم الحكومي، هو ما يدعونا للسؤال عن مغزى احتضان مؤسسة دون أخرى، وفي ذاكرتنا أمثلة كثيرة للإجابة، وفي العهدين تعددت أقسام بيت الحكمة في مختلف الاختصاصات، وتضخم كادره الوظيفي، ومن الإنصاف القول انه أصدر عدداً كبيراً من المجلات والدوريات والكتب، ونظّم حلقات دراسية نقاشية، وندوات ومؤتمرات بفضل الدعم الحكومي، وعلى الرغم من تعرضه للنهب والحرق والعبث بكل موجوداته بعد الاحتلال في نيسان ٢٠٠٣، إلا ان بيت الحكمة إستطاع النهوض من جديد بحملة إعمار وترميم، أعادت له الحياة والاستمرار بذات النهج والأهداف.
شهدت مرحلة التأسيس الأولى ركوداً ثقافياً، وخراباً مريعاً في المؤسسات الأكاديمية والتعليمية، وهي حقيقة لا تغيب عن الأنظار، وأسهمت الدكتاتورية بدرجات متفاوتة بصنع ماكنتها القمعية للثقافة، وإشاعة نمط الثقافة الشمولية، جرت باسم الحفاظ على التراث والخصوصية، وفرض الوصاية على القيم الثقافية، ومصادرة حرية الرأي وانتهاك الحقوق، ولا يقتصر هذا الوضع المتردي على حركة الإنتاج الفكري عموماً، بل امتد في الأثر على الجسم الثقافي وأدواته، فتحول بعض المثقفين الى وجه آخر للسلطة أو صنيعة لها.
وفي ضوء ذلك، يمكننا القول ان بيت الحكمة لم يكن مشروعاً ثقافياً، وفق أهدافه المعلنة والمنصوص عليها في القانون، إنما كان مشروعاً دعائياً، أو واجهة سياسية عبر الفعل الثقافي، وأجادت السلطة بمهارة فائقة وسط تيه من التناقضات وتضخم المشكلات، من إسناد الدور لقيادات حزبية في المؤسسة الثقافية، وهي أسماء لها حضورها المميز والمهم في الساحة الابداعية. فهو لا يختلف بالغايات المضمرة، عن مشاريع بناء أكبر الجوامع في بغداد، وأضخم القصور فيها في فترة الحصار، في حين ظل المثقف العراقي يمتلك صوته الخافت، يعاني من وجع الحروب والموت والحصار، والخوف من زنازين الاعتقال، يعاني الإحباط وتكسر الأحلام والجوع، وراح أغلبهم يعرضون مكتباتهم للبيع والبحث عن مصدر للعيش على دكات وأرصفة المدن الغريبة. هؤلاء كان لهم صوتهم الخافت، رغم أحقية وجودهم وصحة منطلقاتهم، ويتسق مع هذا الوضع حالة الاستياء العام من استبداد الدولة، خصوصاً عندما تتراكم أخطاؤها الفادحة وخساراتها المتلاحقة، بما جعل منها هدفاً لسخط شعبي مكتوم.
السؤال الأهم، هل استطاعت إدارة بيت الحكمة الجديدة، من تجاوز آثار الخراب الثقافي؟ وتحويل المشروع الى بنية تابعة للثقافة ما بعد ٢٠٠٣؟ ، بنمطٍ جديد من مستوى التفكير والسلوك، وأساليب جديدة لثقافة تحافظ على مسافة بينها وبين الحكومة، وتبتعد عن آليات التدجين التي غالباً ما تمارسها السلطة. أم أن ذاك النهج ما برح لم يغادر واقع الأداء؟ ويترك ظلاله القاتمة عليه، بفرض عناصر حزبية أو موالية لاتجاه حزبي محدد، غير مؤهلة علمياً للاضطلاع بهذا الدور، إنما تعمل وفق ولاءاتها وانتماءتها الدينيَّة أوالطائفيَّة، وتابواتها الثقافيَّة، لتمارس تدخلاتها في الميدان المعرفي، واحتكار النشاط الثقافي، وتغلق الأبواب أمام ولادة مشاريع ثقافية برؤى مختلفة.
واقع الحال يشير الى أنَّ بعض هذه المخاوف حصلت بالفعل!  بينما كان الوسط الثقافي يتطلع الى كيان جديد يتلمس فيه حيويَّة ونبض الضمير العراقي في رصد التحولات والظواهر الثقافية، فهل استطاع بيت الحكمة من أنْ يتجه في الدرب المعرفي الأصيل المتنور؟ وبصيغة أخرى، هل تمكن من أنْ يسد فراغاً ثقافياً وفكرياً في الساحة الثقافية، وأنْ يكون منبراً للآراء والأفكار الحرة؟ الوقائع تشير خلاف ذلك! فالإدارات لم تتجرد من الهوى وتتحرر من نزعات الاستئثار، ما زال ذات الإيقاع فاعلاً ومؤثراً، لم يتجاوز عوامل النكوص والانكفاء. وبعد ربع قرن من التأسيس، لم يخلق بيت الحكمة خطابه الثقافي الجديد القائم على أخلاقيات جديدة من الحوار النقدي، أو صياغة أسئلة جديدة في الفكر والثقافة. وإختلاف الرؤى يدعونا الى نحذر التعميم في وضع الحلول، ويدعونا الحرص على ألا نلقي العبء على طرف دون ذاك، لأنَّ توسيع القاعدة الثقافية يستلزم إتاحة الفرصة لمن يمثل الأجيال الجديدة، في البحث عن بديل جديد يأخذ بهذه المهمات، ولنا في تجربة مصر الثقافية والمجلس الأعلى للثقافة فيها، مثلاً متقدماً كنموذج في النهوض الثقافي، ولا سيما في فترة الستينيات والسبعينيات.
من هنا تبدو الحاجة للمراجعة ماثلة بقوة وبإلحاح، بشرط ان تكون مخلصة وواعية، من دون تردد في نقد الماضي بمستوياته كافة، انطلاقا من غنى الأفكار وتنوع الأساليب وتعدد المنطلقات، وأول شروط هذا الجهد، هي العودة بالأرقام والإحصائيات الى المتحقق والمنجز، لا الكمي، إنما النوعي، بمعنى أنْ تكون المؤسسة بصفتها الفاعلة شريكاً في الحياة الثقافية والعامة، وأن يسمح للثقافة بصفتها المعرفية بالتدفق الحر، وتأصيل القيم الجمالية. إنَّ دور المؤسسات ومراكز البحوث في العالم يقوم على ستراتيجيات بعيدة المدى، تقاوم ما هو سائد مهيمن وجامد متخلف، وتسعى للتغيير والتجديد والتنوير والتجاوز المتصل. وغالباً ما تكون في غنى عن السياسات الحكومية المكبلة لحريتها والمقيدة لنشاطها، لا أنْ تكون تابعة لها، محصورة خلف هيمنة أيديولوجيا السلطة وأحزابها، تكتفي بالامتيازات الخاصة على حساب المشروع الثقافي.
والضرورة تقتضي كذلك مراجعة إصدارات بيت الحكمة (الكتب والمجلات)، والإفادة من تجارب دور النشر العربية في اختيار العناوين والموضوعات المهتمة بآخر التحولات والمتغيرات الفكرية والسياسية في العالم، بمختلف الاتجاهات والرؤى المستقبليَّة، والانفتاح على تجليات الإبداع والكتابة على أنواعها.
إنَّ الثقافة لا تتحدث في العادة بصوت واحد، هناك خلافات وتعددية حول أغلب القضايا الإنسانية، وتهتم دور النشر عادة بالشكل في صناعة الكتاب، وتعتني بالإخراج الفني(التصميم، اللون، الحرف) وغالباً ما تبتعد عن الرتابة والجمود لتحقق نقلة نوعية في الشكل والمضمون وهي أحد أهم متطلبات تسويق الكتاب ونجاحه، بإمكانات فنية لا تحتاج الى قدرات ومهارات خارقة، إلا أن بيت الحكمة ظل عاجزاً للأسف الشديد من تحقيق الشرط الجمالي في إصداراته، والمتابع لمطبوعه في أجنحة معارض الكتب يشعر بالحزن حقاً أمام المستوى الفقير فنياً وذوقياً، وهو يقارن تفوق إنتاج دور النشر في الإخراج، بإمكاناتها ومواردها البشرية والمالية، التي لا ترقى الى إمكانات مؤسسة بيت الحكمة الضخمة.
لا هوية فنية تميز مطبوعات بيت الحكمة، ولا وحدة وانسجام في عناصر التشكيل، فوضى عارمة في الألوان والأحجام والقياسات، أكاد أقول انني لم أجد مطبوعاً يشبه آخر، ومن دون استثناء، في كل إصدارات المؤسسة. لذا أدعو المكلفين بهذا الواجب، أنْ يطلعوا على تجارب دور النشر، على الأقل العربية منها، ويتعلموا، ويطوروا مهاراتهم بالدراسة، والانفتاح على منجزات صناعة الكتاب الحديثة في العالم.
إن تساؤلاتنا المشروعة عن حاضر ومستقبل بيت الحكمة هي محاولة، أو بادرة تمهد الطريق لدور أفضل، لا أنْ تكون مجرد رمي حجارة في مياه راكدة.