أزهر جرجيس: أكتبُ تفادياً للنسيان

ثقافة 2020/05/22
...

 
 
موج يوسف 
 
لا يزال الكاتب المغترب أزهر جرجيس يجد في السخرية ممارسة أساسية رغم سوداوية كتاباته، ولعل هذا ما يمنحه قرباً حميمياً من المتلقي قد لا يحظى به الكثير من رواة الفجيعة في المشهد الأدبي المعاصر. 
أصدر جرجيس روايته الأخيرة "النوم في حقل الكرز" عن دار الرافدين/ بيروت 2019، وقد لاقت رواجاً كبيراً واهتماماً نقدياً على الصعيد المحلي والعربي، كذلك رُشحت إلى جائزة البوكر العربي 2020. ولكنَّ الأهم من ذلك أنها قدّمت لنا كاتباً دؤوباً يسعى من خلال لغته الساخرة إلى إدهاش القارئ وإجباره على الضحك رغم قتامة المشهد. لقد استطاع جرجيس، وبزمن قياسي، أن يحفر اسمهُ في المشهد الأدبي المعاصر. وقد خص "الصباح" بهذا الحوار.
 
* في نص سردي طويل يتقصى حياة مهاجر عراقي يعمل موزعاً للبريد وينتهي به المطاف نائماً في حقل الكرز، يجد القارئ بأن عنوان الرواية مستمد من أسطورة قديمة تشير إلى تحول الإنسان بعد الموت إلى ما يتماهى مع بيئة المدفن.. إلى أي مدى استفدت من الأسطورة في روايتك؟
 
- العلاقةُ بين الأسطورةِ والأدبِ قديمة وراسخة، بل لعلها المنهل الأوّل للقصص والحكايات عبر التاريخ. وهذا يرجع بالطبع إلى تجلّي الخيال في الأساطير ممّا يمنح القص ذريعة لملاحقتها والإفادة منها. 
غير أن أسطورة التحول بعد الموت بما يحاكي بيئة المدفن لم تكن مقصودة بحد ذاتها في رواية النوم في حقل الكرز، بل جاءت ضمن سياق الفكرة لا أكثر.
 
* تحضر السخرية بقوة في السياق السردي لأحداث الرواية، كما أن لغة التهكم لا تغيب حتى في أشد المواقف بؤساً. هل أردت لنصك أنْ يدرج في خانة الكوميديا السوداء؟
 
- أنا ساخر بطبعي، وقد تسللت هذه السخرية إلى قصصي وألبستها ثوب الفكاهة المرّة، لذا تجدين بأن أصعب المواقف وأكثرها جدّية داخل النص قد تتحول إلى مورد
للضحك. 
اللغة الساخرة التي منحتها لبطل الرواية ما هي إلا وسيلة للتنكيل بحياته التعيسة، فهو كباقي أبطال قصصي؛ يسخر من الموت، الحرب، الجوع، الظلم، الزيف.. إلخ. يفعل ذلك من دون أنْ تكون السخرية مقصودة بذاتها.
السخرية أداتي للتنكيل بالحياة، أمارسها في كتاباتي كوسيلة للرفض والاعتراض لا لافتعال الضحك الساذج.
 
* ثيمة الهجرة هي الأخرى حاضرة بقوة في الرواية كما أنَّ ظلالها لم تغب عن نصوص كتابك "صانع الحلوى" ولا عن قصص "فوق بلاد السواد".. هل تجد في قصص المهاجرين مادة دسمة للكتابة؟
 
- الكتابة عن المهاجرين تأتي ضمن مشروع الكتابة عن الهم الإنساني، ولا سيما حين تكون الهجرة
إجبارية. هذا النوع من الهجرة ما هو إلا حلقة في سلسلة الموت الذي يمارس على الإنسانية بشكل مبرمج، فأنت وما أن يتم اقتلاعك من بيئتك الحاضنة حتى تبدأ لديك الأشياء التي أحببتها بالموت واحدة تلو الأخرى. 
قد لا تشعر بذلك للوهلة الأولى، لكنَّ هذا ما يحصل. لقد اطّلعت بحكم عملي على الكثير من قصص المهاجرين ومغامرات عبورهم الحدود، ووجدتها تجربة إنسانية قاسية تستحق الكتابة. ثم أني كمهاجر مررتُ بذلك أيضاً، ولسعتني حياة المهجر بمكواة العزلة والابتعاد القسري عن بيئتي
الأولى.
 
* عند تتبع نتاجات أدب المهجر نلاحظ بأنَّ هناك صورة نمطية للمهاجر العربي تصوره كشخص عدمي يرتاد الحانات ويبحث عن الجنس. لكننا نجد التواصل الجسدي بين بطل روايتك، سعيد ينسين، ومعلمة اللغة قد أعطى وجهًا مغايرًا لتلك الصورة. هل حاولت طرح رؤية مختلفة لما شاع في الرواية العربية عن غزوات الرجل العربي الجنسية للغرب؟
 
- مع تحفظي على تصنيفات مثل أدب المهجر ورواية الخارج، أتفق تمامًا بأن ما يُكتب عن الهجرة والمهاجرين ما زال يصور المغامرات الجنسية للأبطال على أنها نوع من الغزو الرمزي للغرب. 
هذا النوع من الكتابات جعل الأمر يبدو وكأن البطل يثأر من الغرب من خلال ممارسة فحولة لا يملك سواها. أنا لست ضد الإيروتيك بل أجد فيه ضرورة فنية لتكثيف صدق الحكاية، لكنّ يمكن وضعه في نصابه الصحيح كي نعيد للتواصل الجسدي صفته الإنسانية بدلًا من الانغماس المفرط في الحيوانية.
 
* غادرت العراق قبل سنوات طويلة ولكنه ما زال حاضراً في أعمالك.. هل تجد في ذلك تعويضاً عن حياة الاغتراب؟
 
- ليس بمقدور الكاتب بشكل عام أنْ يغلق أبواب الذاكرة قبل الجلوس خلف منضدة الكتابة، ولا سيما حين يكون مغترباً. فما بالك بذاكرة تختزن ثلاثة حروب وحصاراً وموتاً بالجُملة والمفرد؟
ولدتُ في العراق وعشتُ سنوات الطفولة والشباب هناك وما زلتُ أحتفظُ بذاكرةٍ مليئةٍ بالأحداث. لقد شكلتني تلك الذكريات ومنحتني مادة أولية لكتابة القصص، لذا تجدين بأنَّ الهمّ العراقي غالباً ما يطفو على الورق رغم أني أكتب عن الهم الإنساني بشكل عام. في الواقع، أنا لست قادراً على خلع معطف الذاكرة، بل أجد بأنّي أكتب تفادياً للنسيان. ولعلَّ هذه واحدة من مهام الكاتب برأيي؛ الحفاظ على الذاكرة الجمعية وحمايتها من النسيان.
 
 *سعيد ينسين، بطل روايتك، مهاجر عراقي ينشر قصصًا ساخرة في إحدى الصحف النرويجية، أرى شبهاً كبيراً بينكما.. إلى أي مدى تقترب الرواية من سيرتك الذاتية؟
 
- لعل واحدة من الألاعيب الروائية التي يمارسها الكاتب هو إسقاطه لبعض من تفاصيل حياته على أبطاله. يقول بوكوفسكي بأنَّ التلاعب والتحريف في الأحداث التي عاشها الكاتب في حياته تجعل القارئ دائم البحث عن سيرته الذاتية. 
في كثير من الأحيان يؤثر الكاتب في شخصية بطله، فيتوهّم القارئ بأنه يروي عن نفسه. 
نعم أنا وسعيد ينسين متشابهان بعض الشيء لكنَّ الحكاية تختلف ولعل التفاصيل تكشف عن ذلك، فسعيد يبحث عن صورة لأبيه الذي فقده قبل أنْ يلد، بينما لا يزال أبي على قيد الحياة ويتمتع بصحة جيدة.. لا شك أنّ من يقرأ الرواية حتى النهاية سيعرف بأنّي لستُ سعيد ينسين.