د. محمَّد حسين الرفاعي
(1)
ليست الدولة، في علاقاتها بين المُكَوِّنات الداخلية لها، والمُكَوِّنات الخارجية لها، إلاّ عالَميَّةً. أعني أن الدولة بوصفها مؤسسة المؤسسات المجتمعيَّة هي وحدة المجتمع مع المجتمع العالَمي، أو لا تكون. وهذا لا علاقة له بأيِّ موقف ايديولوجي يتوهَّمُ بناء دولة على مقاسات الخُصوصيَّة.
لكن، حينما نقف عند معنى الدولة، وممارسة هذا المعنى، في الضروب الفكريَّة المختلفة التي من شأنها، نصطدم بأوهام ثلاثة على أقل تقدير:
1 - وهم إسلامية الدولة، وخروجها عن العالَميَّة.
2 - وهم اِستنساخ عالَميَّة الدولة، ومحاولات استنساخ تجارب الدول الأخرى.
3 - وهم خُصوصيَّة الدولة والتوقف عند الحدود المجتمعيَّة- التاريخيَّة التي من شأن مجتمع بعينه.
(2)
ولكن، قَبلَ كل شيء علينا أن نستجلي الصيرورات المختلفة للدولة، ولممارسة المفهوم، ضمن التوقف عند أربع صيرورات على أقل تقدير:
1 - صيرورة التطور البشري من مرحلة الحُرِّيَّة المطلقة (التوحُّش) إلى مرحلة الضبط والتحديد والتعليم.
2 - صيرورة تطور المجتمعات من مرحلة المجتمع البدائي إلى مرحلة المجتمع ما بعد الثورة التكنولوجية.
3 - صيرورة تطور التنظيمات البشرية من تنظيمات بسيطة، إلى شبكة تنظيمات معقدة تُحدد بواسطة: مفهوم العالَميَّة، ومفهوم الاِنفتاح على العالَميَّة.
4 - صيرورة تطور الواقع، من الواقع- الرموز(واللغة الرمزية) إلى الواقع المُضاف.
(3)
إذن، كيف يمكن التَّساؤل عن عالَميَّة الدولة، اِنطلاقاً من هذي الصيرورات الأربع؟ وبأيَّةِ معانٍ نقف عندها؟
إنَّه المشترك الإنساني، عالميَّاً. إنَّه ذاك الذي يجعل من المجتمع البشري في كل مكان وزمان متوفِّراً على ضرورة (التحديد- والتنظيم- والضبط). إنَّ الضبط المجتمعيّ، والحال هذي، هو أوَّلُ التَّساؤل عن مفهوم الدولة بالاِنطلاق من عالميَّتِهِ. إنَّ المشترك الإنساني يتضمَّنُ معاني، ومضامين نظرية تقوم الدولة بوصفها ضبطاً مجتمعيَّاً، قائماً على وحدة المجتمع المحليِّ- الخاصّ مع المجتمع العالمي، هي، على أقل تقدير، الآتية:
1 - المعنى الأول يرتبط بمفهوم المساواة، وصيرورة فكرة المواطنة داخل المجتمع؛ اِنطلاقاً من المؤسسات المجتمعيَّة التي تؤدي وظيفة ضبط ذلك، إلى المواد القانونية التي تصونه.
2 - المعنى الثَّاني يرتبط بمفهوم العقد- الاِتِّفاق، وتخلِّي الإنسان عن حريَّتِهِ الطبيعية من أجل النظام- والضبط، اللَّذَيْن تمارسُهما المؤسسة المجتمعيَّة.
3 - المعنى الثَّالث يرتبط بثنائية (وحدة المجتمع- والتعدُّد في المجتمع)، وضروب المأسسة التي تحافظ على التعدُّد المجتمعيّ، والتنوُّع المجتمعيّ، والاِختلاف المجتمعيّ، داخل وحدة المجتمع.
4 - المعنى الرَّابع يتضمَّنُ أنَّ مصدرَ كل السُلط إنَّما هو الشعب، وما يرتبط بالمفاهيم الحديثة التي من شأن الديموقراطية، والمشاركة السياسيَّة، والتمثيل السياسيّ.
(4)
عند هذا المستوى، أي بعد التَّساؤل عن وهم الخُصوصيَّة، وعن مفهوم المشترك الإنساني، والصيرورات الأربع، والمعاني الأربعة التي من شأن التَّساؤل عن مفهوم الدولة، نكون أمام عالَميَّة الدولة، حينما نتوقف عند أربع عمليات بناء، على أقل تقدير، هي الآتية:
البناء الأول: بناء التربية، والتعليم، والتعليم العالي، على أسس المدينيَّة.
البناء الثَّاني: بناء الديموقراطية اِنطلاقاً من بِنيَة الثقافة، وليس التوقف بها عند بِنيَة السياسة فحسبُ. وليس اِختزال الديموقراطية في بعضٍ من أدوات، وأساليبها.
البناء الثَّالث: بناء الإنسان والمجتمع اِنطلاقاً من توزيع الثروة بواسطة سياسات اقتصادية تُنتج، وتعيد إنتاج أسواق العمل.
البناء الرَّابع: بناء، وإعادة بناء سياسات اِقتصادية، قصيرة الأمد، ومتوسطة الأمد، وطويلة الأمد، تسهم في اِستقلال الدولة، ولا تقطع مع الااقتصاد العالمي.
(5)
إنَّ الدولة هي المجتمعُ الذي يحكمُ المجتمعُ ذاته؛ أو لا تكون. وفي عبارة صارمة، إنَّ الدولة إنَّما هي حكمُ المجتمع لذاته، وبذاته، وفي ذاته، ومن ذاته، أو لا تكون. ماذا يعني ذلك؟ إنَّه يعني أن المجتمعَ الذي لم )، ولا يمكن ألاَّ يبلغ ذلك إلاَّ المجتمع الذي لم يبلغ بعد مستوى المدينيَّة Civilization، لا يتوفَّر بعدُ على شروط إمكان قيام الدولة، بالاِنطلاق، دائماً قَبْلِيَّاً، من العالَميَّة.