هل انتهى عصر العمل في المكاتب؟

ثقافة 2020/06/02
...

لندن/ بي بي سي
 
قبل تفشي فيروس كورونا، كان الملايين منا يقضي ثلث وقته في مكاتب العمل. ولكنْ، منذ أنْ دخل الإغلاق العام حيز التنفيذ في المملكة المتحدة، يقول نحو نصف القوى العاملة في المملكة إنهم يعملون في منازلهم. كما ألمحت بعض الشركات إلى أنَّ ذلك قد يصبح أسلوباً معتمداً للعمل مستقبلاً.
وقال رئيس «بنك باركليز» إن «فكرة زجّ سبعة آلاف موظف في مبنى واحد قد تصبح في طيات الماضي «، في حين قال رئيس بنك «مورغان ستانلي» إنه سيكون لدى البنك نسبة عقارات أقل بكثير.
وقال رجل الأعمال السير مارتن سوريل، إنه يفضل استثمار 35 مليون جنيه إسترليني في توظيف الناس وتطوير مهاراتهم بدلاً من الاستثمار في مباني المكاتب وتجهيزاتها المكلفة. ويرى بروس ديزلي، مؤلف كتاب «بهجة العمل»، إن زمن العمل في المكاتب قد ولّى.
 
شيء من الماضي
وقال في حوار مع بي بي سي: «للأسف، قد نشعر ببعض الغموض حيال ذلك، لكني أعتقد على الأرجح أن المكاتب لن تعود كما كانت عليه، وسيصبح الشكل الذي كانت عليه، شيئاً من الماضي».
«كنت أدردش مع شخص يعمل في وسيلة إعلام رئيسة الأسبوع الماضي، وقال: كان لديهم 1400 موظف يأتون إلى هذا المبنى يومياً، أما في الأسابيع الثمانية الماضية، فانخفض عددهم إلى ثلاثين شخصاً فقط، ولم يؤثر ذلك في إنتاجية العمل». وأضاف: «إنه من السذاجة أن يعتقد أي شخص بأن الأمور ستعود إلى سابق عهدها».
ويقول البروفسور أندريه سبايسر ، من كلية «كاس» لإدارة الأعمال بجامعة سيتي بلندن، إنَّ نهاية مرحلة العمل في المكاتب غير واضحة بعد. ويتوقع «انخفاضاً جذرياً» في مقدار الوقت الذي يقضيه الأشخاص في المكتب، لكنه يقول إنَّ العمل في المكتب لن ينتهي إلى الأبد.
 
قلق
ويعتقد أن أحد الأسباب، هو أنه قد لا يحظى العاملون في المنازل بترقية وظيفية وقد يُهملون بسرعة. لذلك، ومع طرق الركود لباب المستقبل، قد يرغب الناس في أن يكونوا ظاهرين للعيان .
ويضيف: «سيبدأ الناس بالتفكير بشكل خاص في أوقات الأزمات الاقتصادية - أريد أن أكون في مكان العمل، ويجب أن يراني المدير».
ويلمح سبايسر أيضاً إلى أنَّ المكاتب ستبقى مقرات لكبار المديرين في حين يسافر الموظفون مرة واحدة أو مرتين في الأسبوع للقاء رؤسائهم.
ويبدو أنَّ هذا يشبه خطة تويتر، ما يسمح للموظفين بالعمل من المنزل إلى الأبد، رغم إبقاء أبواب المكاتب مفتوحة أمام من يرغب القدوم إليها. إنَّ العمل في المنزل ليس بجديد، لقد كان اعتماده في تصاعد في العقود الأخيرة، وقد حاولت العديد من الشركات بالفعل توفير المال المدفوع لإيجار المكاتب من خلال توظيف مساحات عمل مشتركة.
ويقول البروفيسور سبايسر: «أعتقد أنَّ التكلفة محرك كبير، فالكثير من الشركات ستقول إننا ننفق كل هذه الأموال على الإيجارات لذا دعونا ننتقل إلى توظيف المزيد من العمال للعمل في المنزل وهذا فعلياً ما يحدث الآن».
 
أكثر إنتاجية وسعادة
اكتشف الكثيرون منا بالفعل بعض امتيازات ومشكلات العمل من المنزل. بعضها واضحة مثل عدم الاضطرار إلى رحلة التنقل اليومية إلى العمل وفرص أقل للاختلاط مع زملاء العمل، لكن آخرين ذهبوا إلى صميم المشكلة.
تقول لوسي كيلاواي، التي ألفت كتباً خيالية وواقعية عن المكاتب: «أعتقد أننا يجب أن نبكي على ما سنفقده، إن أهم شيء في وجودنا في المكتب هو أنه يعطي قيمة لما نقوم به. دعنا نقولها صراحة، فمعظم ما نقوم به على أجهزة الكمبيوتر المحمولة لا معنى له إلى حدٍ كبير».
«إنَّ أفضل طريقة للتفكير هي أن هناك نقطة ما تتمثل في وجود أشخاص آخرين يجلسون من حولك ويفعلون نفس الشيء الذي تقوم به».
وتضيف، أن المكاتب تبقينا سليمين عقلياً وتمنحنا روتيناً يومياً، فبمجرد وصولنا إلى مكاتبنا، نتحول إلى أشخاص مختلفين».
«لا أعرف ماذا عنك.. ولكنني أشعر بالضجر والملل من أن أكون الشخص ذاته طوال اليوم وأنا أتجول في المنزل. فأنا أريد أن أرتدي ملابس مختلفة وأذهب إلى مكتب العمل وأرى أشخاصا مختلفين الذين أصبحوا أصدقائي ويضحكون من الصميم عندما أكون 
هناك «.
ويقول البروفسور سبايسر إن الدراسات تظهر أن الأشخاص الذين يعملون من المنزل أكثر إنتاجية وسعادة، خاصة بدون تنقل، الذي يعد أحد العوامل الرئيسية في جعل الناس غير سعداء. ويستشهد سبايسر بدراسة قائلاً: «من ضمن سلبيات العمل في المنزل، هو أن العاملين في المنازل يشعرون أنهم «في المنفى» وبالتالي يصبحون «بحاجة إلى رؤسائهم».
«تصبح وظيفتهم الرئيسة لفت انتباه رئيسهم. إنها الرغبة في أن يُشاهدوا وهم يقومون بأداء المهام، وعندما لا يظهر الشخص بالصورة التي يريدها، ينتابه شعور مقلق ومربك. وهذا جانب سلبي للموظفين وأرباب العمل على حدٍ سواء».
 
لا مساواة
وثمة عيب آخر يتمثل في خطر من أن يؤدي العمل في المنزل إلى «تفاقم عدم المساواة» ، كما يقول سبايسر. فعلى سبيل المثال سيكون هناك فرق بين أولئك الذين لديهم مساحة أكبر في المنزل وبين الآخرين الذي ليست لديهم، وبين الرجال والنساء. «في القطاع الذي أعمل به، الوسط الأكاديمي، ثمة أثر كبير وهو أن تقديم الطلبات قد انخفض بشكل كبير من قبل النساء. والسبب الواضح لذلك هو أن النساء لا يزالن يقمن بمعظم أعمال رعاية الأطفال والمهام المنزلية».
وفي الوقت نفسه، سيفتقد الموظفون الأصغر سناً فرصة التعلم من زملائهم الأكثر خبرة، وستزول تلك المحادثات غير الرسمية التي تؤدي إلى أفكار بناءة، كما 
يضيف دايسلي.
«لسوء الحظ أعتقد أنه إذا لم نكن حذرين، ستخسر الكثير من الشركات تلك الأشياء السحرية التي تجعل العمل أكثر إبداعاً وإنتاجاً».
وفي الوقت الحالي، يؤدي العديد من العاملين أعمالهم في منازلهم، وعندما يعودون إلى مكاتبهم، توصي حكومة المملكة المتحدة بتغيير في جدول دوامهم واستخدام مسارات ذات اتجاه واحد، وتقديم وجبات الغداء مغلفة والإبقاء على مسافة مترين بينهم. ولكن سواء كان العمل في المنزل مؤقتاً أو دائماً، فالبعض سيتوق للحياة المكتبية باستمرار.
تقول كيلاواي: «الاجتماعات مضرة جداً، لكني الآن، أحب أن أجلس حول طاولة اجتماعات حقيقية مع بعض الأشخاص الحقيقيين وطبق حقيقي من البسكويت «.
 
إبحث عن مساحة للمحادثة
في العام 2015 قرر المدراء في شركة بافر المبتدئة لوسائل التواصل الاجتماعي في سان فرانسيسكو إغلاق مكتبهم الذي كان إيجاره 7000 دولار شهرياً، عندما أدركوا أن معظم موظفيهم يعملون من المنزل.
فريق الشركة المكون من 90 شخصاً منتشر حالياً حول العالم.
كان أحد موظفيها يعمل يوميا أثناء سفره حول العالم، في حين قام آخر بوظيفته أثناء قيامه برحلة بحرية رغم أن شبكة الانترنت الضعيفة لم تمكنه من تحقيق نتائج مثالية في عمله.
يقول آندي (أحد موظفي الشركة): «نحن نقوم بدور العقل المدبر»، وهذا يساعدنا جزئياً. «فهم يعينون شريكاً لك في العمل، وتتشاركون المحادثات في ما بينكم كل أسبوع أو أسبوعين. ولدينا قناة تسمى» مبرد المياه « لمناقشة أي فكرة أو أمر عشوائي قد يخطر ببالنا من خلال هذه القناة».
من جانبها تقول كارولين: «يجب الاهتمام بشكل خلاق بتلك الأشياء التي يتم اكتشافها عادة بالصدفة أثناء محادثتك مع شخص ما في فترة الغداء أو في غرفة الاستراحة، والتي تستغرق وقتاً وجهداً. فعلى سبيل المثال، تقوم إحدى زميلاتنا في الفريق تدعى نيكول بتجميع موجز أسبوعي حول «أشياء لم تكن تعلم عنها أي شيء سابقاً›› ، وتقوم بمسحٍ جميع اتصالات الشركة وتكشف عن أشياء حقاً مثيرة للاهتمام.
«هذا يتطلب الكثير من العمل، لكن هذا هو المطلوب للعمل في شركة تتكون من هكذا عدد كبير من الموظفين المنتشرين في مواقع مختلفة ولا يمكنهم الذهاب لتناول الغداء معاً».
كما يتم أيضاً تسجيل محادثات الفيديو الجماعية ثم مشاركتها مع الزملاء الذين يعيشون في مناطق زمنية مختلفة حول العالم ولم يتمكنوا من الانضمام إليها.
 
وجهاً لوجه
يقول آندي: «نقوم بعطل للترفيه وإعادة النشاط كل عام، ثم نجري مؤتمرات صغيرة ضمن الفرق التي تركز على العمل بشكل أكبر». لكن لسوء الحظ، ألغيت تلك النشاطات هذا العام في اليونان لجميع موظفي شركة «بافر» بسبب تفشي فيروس كورونا.
وسيجتمع الموظفون في نفس البلد أو البلدان المجاورة أيضاً، وسيسافر شخص واحد لمقابلة الموظفين الجدد شخصياً.
 
الحرية المعقولة
تقول كارولين: «الشيء الوحيد الذي فعلناه والذي كانت نتائجه كارثية حقاً، هو العمل بتجربة الهيكل التنظيمي المسطح» (أي عدد أقل من المدراء أو حتى انعدام المدراء).
«اعتمدنا هذا المفهوم الذي يعتمد على مبدأ أنه إذا منح الأفراد الحرية، فسيبذلون قصارى جهدهم. لكننا تعلمنا من تجربتنا أن المدراء يضيفون حقاً الكثير من القيمة والتنظيم للعمل. أراد الموظفون فعلاً أن يكونهناك شخص يخضعون للمساءلة من قبله، شخص يتحدثون إليه بانتظام ويفتح لهم مجالاً 
لمواجهة التحديات».
«عندما تخلصنا من مفهوم المدراء وكنا نعمل بعيداً من مواقع عشوائية، واجهنا كارثة، فقد انهارت الاتصالات بيننا».