في مجموعته الشعرية (تجاعيد الماء) الصادرة عن دار الروسم – بغداد 2018 يظهر الشاعر مهدي القريشي في الفضاء التوسطي الذي يجمع ما يقوله ولم يعد له صدى في الواقع وبين ما يفعله وأصبح غريباً عن الواقع ذاته، فهو يشكل فجوة في اللغة وينحت فيها مكاناً لما يتعذر قوله، إنه يغترب في اللغة ويستعير مفردات المعاني المجاورة أي أنه يفتح لغته على المجاز، والمجاز هو أساساً العبور أي أنه يتكلم بلغة ليس لغته وتحظر عليه الاستقرار والمكوث، فهو عرضة للإكراهات والإحباطات تبعاً للنقص الذي لا يملأ أبداً ما يتعطش في داخله إلى الوصول والاستقرار يأخذ وصفه وقوله ويشكّل من أنسجته ما يتلبسه ولا يلتبس عليه ويجعل منه رموزاً وإشارات، تحكي ما يفعله ولا تحاكي ما توقف عن التعبير عنه. وبما انه انقطع عن البيان ليحيا في الكيان، فإن فعل التعبير الذي يعوّضه نقص العبارة هو الإرادة أو الهمة التي تحدد ما يتحرك في داخله من قوى وطاقات:
((لطفاً أيها القلق/ ماذا دهاك/ تسير في شوارعنا/ بخشوع ناسك/ وتشرب من ينبوع اللذة/ وتشير إلى جثثنا المعلقة/ وهي تنتصب خجلاً/ لأن جماجمنا لا تصلح أوعية للحساء/ ولفرط خشيتي من الطمأنينة/ فرشت الشوارع قصصاً محنطة بالسواد/ تستأنس في قراءة أقدام القلق/ وهي تنبش تأريخ الغبار)) (ص7).
فالشاعر يعبر لا لأنه يقول أو يحاكي وإنما ليعبر ويحكي أي أنه يريد، وما يريده هو ما يرتحل إليه دون القبض عليه، هو ما يقوله بجسده الغائب- الحاضر دون أن ينطق به، وهو ما يكتبه بفعل السفر والإسفار عن إرادته ورغبته، فالكتابة هي فقدان شيء من الجسد لينشأ منه النص، جسد من أجل الآخر. فهو جسد العبور نحو الآخر الذي يناديه في أعماقه وآفاقه. فلا يكتفي بـ((هذا)) ولا يمكث (هنا) لأن طبعه هو النفور من الاستقرار والبحث المستمر عن الفقدان: ((البلاد التي لا تلعب في حضن الموت/ عارية/ تنام بعين واحدة/ تتحشرج في حنجرتها نفايات الموسيقى/ خوفاً من يقين الظلام/ هي بلادي)) (ص7)
((البلاد التي كل ليلة أرى قمرها/ يبكي وسط الظلام/ يستنجده/ أن يدلّه على الطريق/ حدث هذا في بلادي)) (ص77).
((هل أنا... لأني خنت بلادي/ وفتحت رأس تأريخها المستباح؟/ عفواً أيتها البلاد/ التي أصبحت سجادة للقادمين/ وعذراً إن أطلت المكوث بين فخذي فضتك/ سأبرئك من كل لون استباح خارطتك/ لأنك بلادي !)) (ص80).
الشعر بهذا المعنى ((ثقافة)) لا تنفك عن الانفلات والتواري من فرط الحضور. الشعر جسد وليس ((طيفاً)). إنه جسد خشن. وجود كثيف ينساب من بين كثافته وسمكه. إنه وليد تصورات جمعوية وتحديدات تأريخية أي نتاج أساطير وتمثلات. يتوارى في حقيقته ويظهر بتحركاته وارتحالاته.
بهذا المعنى نفهم تأريخ الشعر الذي هو تأريخ الحضور. أي حضور فعل التعبير الذي هو الجسد الثقافي. فلا تتبدى حقيقته سوى في شكل طفرات وانشطارات (وليس في شكل شطحات صوفية). أي فيما يسكت عنه في المنطوق وما يقوله بحركاته وسكناته.
فالشاعر يجد نفسه في فضاء من التعبيرات والمستويات نصطلح عليه بالاسم الثلاثي: ((الكيان- الجولان- الكتمان)) فما يقوله بكيانه هو ما يكتمه في بيانه. لأن الجسد الذي يعبّر به ويعوّض نقصان اللغة هو محل الجولان والإرتحال. أو السفر الذي يعلمه بأن الاستقرار وحط الرحال هو عين الضمور والزوال:
((حينما قررت أن تتكئ على جدار التاريخ/ المولود من رحم ماكر/ قلت لها اختاري/ اشتهاء الجسد أم الرحيل مع الغيوم؟/ مراياك مرتعشة/ والماضي قناديله مطفأة/ والحاضر يغسل خاصرته خلسة/ يرمم سرير الفراشات/ ويعقم النهار من الأدعية الفاسدة)) (ص69 وما بعدها).
الشاعر القريشي يستعمل الكلمات –عادة- مثلما يستعمل الثياب القشيبة الفاخرة لفتنتها لا لما فيها من واقعية، وعلى المعنى أن يكون صبوراً حتى النهاية، منتظراً حتى بعد نفاد الوقت. ولأجل معرفة حجم الجهد الذي بذله الشاعر مهدي القريشي في مجموعته الشعرية هذه صار لزاماً علينا أن نقارب العنوان ((تجاعيد الماء)). هل للماء توصيفات اليابسة؟
لليابسة تجاعيد تأتي على شكل طيات أو أخاديد أو ثنيات أو تغضنات أو تعرجات أو خارج وداخل، أما الماء فلا يمتلك مثل هذه التجاعيد فهو دائماً في شكل واحد، مستوى معلوم، متكامل، أسيل أملس، متألق، قلق في استقراره أو في تدفقه، الفيزياء في الماء أو على اليابسة لا تحب الفراغ، فهي في الماء واضحة تشتغل حسب نظرية الأواني المستطرقة أو حسب الجاذبية، فهي تسد الفراغ وتملأ التجاويف وتعادل المستويات وتقضي على الفروقات، وفي اليابسة تحتاج الفيزياء إلى بعض الوقت، طال أم قصر لتفعل فعل ردم الفراغات وملء التجاويف وتعديل المستويات والقضاء على الفروقات.
إذن، لا وجود لتجاعيد في الماء ولا تغضنات ولا شيخوخة، فالماء سيال، متجدد، متدفق، مستمر، والزمن عنده متوقف، إنه في شباب دائم وخالد، إلا إذا جف المصدر وردم المنبع، أو توقفت السماء عن تجميع الغيوم، والجبال عن تكديس الثلوج، وحتى إذا حدثت تغيرات على اليابسة الحاضنة له، وغيرت مجاريه، وانحرفت روافده المغذية، يبقى هو هو، النهر والماء في شباب قائم.
إذن، من أين جاءت تجاعيده؟ تعامل الشاعر مهدي القريشي مع الماء كالوطن، فالوطن الذي يتوجه له بكل قصائده هو بلاد الرافدين. أي وطن الماء، الذي امتلأت تضاريسه وطوبغرافياته بالتجاعيد من شدة الهول والمصائب، من كثرة الكوارث والنكبات، وتجاعيد ألم أو تجاعيد مرض أو تجاعيد شيخوخة، فالأمر سيان والمحنة واحدة.