السياسة من الحداثة الى ما بعدها

آراء 2020/06/05
...

 محمد يونس
 
إن سيرورة علم السياسة قد بدأت منذ ارسطو، إذ قدم للسياسة نظريا طروحاته، التي اعتبرت اصول نظرية بقيت ردحا طويلا من الزمن معمولا بها، وبقيت اوروبا منذ العصور الوسطى تلتزم بالافق الارسطي بعد تماهي تلك الطروحات كقيم كبرى، الى أن جاءت الكنيسة وفرضت سلطتها على العامل السياسي، لكن لم تجد لها استمرارية طويلة الامد، فسقطت في اتون الرهبنة المرعب، 
واعيدت صياغة الدين سياسيا، إذ تم فصله عن افق الدولة، أي هنا ازيح عن سلطته ودجن، وصار له وجه جديد بشر وحلو الملامح، وبعد تطور علم السياسة على يد لوك وستيوارت مل وفانون، وتدخل نيتشه بشكل حاد الإيقاع، صار للسياسة معنى اخر، وعلى وجه الخصوص بعد ان خرج الفكر السياسي من افق الفردية الارسطية، التي بقيت قرونا كثيرة هي معناه الاصيل والحاضر ايضا كخطاب شكلا ومضمونا، وبعد التطورات الحيوية قدرت الحداثة للسياسة أن تبقى شكلا ارسطية، لكن تتغير مضامينها بحسب الحاجات العامة للمجتمع، ولكن لم تقف الافكار عائقا ازاء المطامع السياسية لقادة اوروبا، فشهد العالم في بداية القرن العشرين حربا شرسة ، وكانت حربا عالمية اولى،  وقد اعطت انطباعا لدى الناس أن الخطاب السياسي هو كما الملهاة التي كانت تنعش نفوس الشعوب، اما السلوك السياسي فهو الفيصل في حياة أي شعب، وتلت تلك الحرب اخرى اشد منها، وقد حصدت الحرب العالمية الثانية ارواح الملايين من البشر، وعلى وجه الخصوص الذين كانوا في سن مبكرة، ولم يعيشوا الحياة بالشكل الملائم، ومرة اخرى تشعر الشعوب بأنه لا جدوى من الخطاب حين يملك قيمة بلا قوة، وصار ذلك شعارا اساسيا، وقد برهن على ذلك الساسة، فستالين برهن بشكل متميز وممتاز على النظرية الجديدة للسياسة – نظرية القوة لا العقل – وصار ستالين في حينها ظاهرة سياسية بكل ما لتلك الجملة من معنى، بل حتى الفكر اللينيني وضعه في قبضته، واكد انه مثال القرن في حينها، لكن لم يدر في خلده أنه قد بلغ اقصى درجات الطغيان، وقد استعيرت تلك الدرجة التي بلغها ستالين من حكام في شتى بقاع العالم، وارى ان ستالين هو اول حاكم ازاح عن قاعدته السياسية المبدأ والمثال السياسي الاعلى، فأعتقد بأن الشعب الروسي صار يفكر اكثر بستالين، ولا يفكر بالمثال السياسي إلا بشكل مفرد، وقد انعدم التفكير الجماعي بالمثال  كماركس مثلا، وصارت الايديولوجيا ليست هي الامثولة السياسية، بل القوة التي تنبثق منها، وبدأت السياسة تفقد قيمتها وبهت بريقها في تلك المرحة العصيبة من الحداثة 
السياسية .
لقد سبقت منطق القوة السياسة مثل حيوية رفدت بخطابها الحيوي النظام السياسي في ظروف الحداثة قيمة ومتانة، وتطورت تلك الافكار السياسية التي تمثل مبدا الذات الفاعلة افقيا بالقاعدة, وشاقوليا بالوعي المقابل, وقد مثل ماركس وفانون اهم النماذج الحيوية في المبدأ الديكارتي بصبغة – انا افكر اذاً انا موجود, وهما مثالا الخبرة التاريخية في تفكيك بنية السياسة واعادة انتاجها ديلاكتيا, وقد طور ماركس فكرة الفلاسفة إذ يرى هو واخرون أن تفسير العالم بطرق مختلفة لا بد من تلك الغاية هو تغييره، ليكون بمعنى مغاير عن سابقه, واهتم ماركس بالفلسفة العملية اكثر من الفلسفة العقلية, وفانون ايضا طور نظم الموقف من الفكرة الى المجتمع, وبقي هذا الفكر العملي سائدا عالميا بنسب, وتطورت مكانة العقل السياسي وتفاعلت المجتمعات بشكل او باخر مع المثال السياسي والمبدأ الحيوي، واثمر ذلك الاتصال بين مناطق التفكير السياسي، ما بين جهة الاعلى وجهة الادنى، وصار ماركس تحديدا قاعدة اقتصادية، ويرى هو أن ذلك لا يخرج عن حدود اوربا، على أنها المثال النوعي المناسب، لكن لم تمهل الراسمالية ذلك المثال طويلا، فنمت قبالته وترعرعت في ظل ظروف مناسبة، وطرحته مثالها الموازي، فصارت هناك قبالة المثال السياسي اطروحة الراسمالية، لكن تفكير راس المال لم يكن بالصيغة التي ارادها المثال ولا الاطروحة، وقد خسرت السياسة هنا رهانا مهما، قد عجزت عن ديمومته, وصار لابد هنا للتاريخ من أن يقف عند هذا الحد، وهو ما اسماه فوكياما – نهاية 
التاريخ - . 
بعد انتشار مثال القوة السياسي وتضييق مساحة الحرية السياسية الى اقصى حد، وتغير المبدأ السياسي اجمالا شكلا ومضمونا، وعودة الفكرة الافلاطونية للسياسة في طبيعته بما بعد الحداثة، انعدمت معايير كبرى ومهمة، فحتى هيئة الامم لم تعد سوى شكل خال من معنى سلمي معهود، بل اصبحت محكومة من قوة كبرى وراس مال يحكم العالم بطرق غريبة وعجيبة، وفقدت سياقات مهمة، ففي سياسة ما بعد الحداثة الافقية يقف شاب للتو نما سياسيا امام شيخ سياسي، ويمثل معه موقفين سياسيين متوازيين، ومن الطبيعي أن هذا مؤشر على عودة الجدل الافلاطوني الى كيان السياسة في ما بعد الحداثة، وذهبت جهود ارسطو التاريخية ادراج الرياح، ولم يعد من الممكن تداولها في الظروف الحالية للسياسة، وهناك امثلة كثيرة تؤكد فوضى ما بعد التاريخ السياسي، فإن شهدنا في بلد ملتهب سياسيا تناوشا بأدوات غير خطابية، مثل عراك بالايدي، لا نستغرب ذلك، لكن أن نجد أعضاء برلمان كوريا الجنوبية يتبادلون اللكمات فلابد من ان نؤشر أن التاريخ السياسي بمبادئه قد انتهى وزال .