غيمة عطر حميد الربيعي

ثقافة 2020/06/06
...

 ابراهيم سبتي
 
قصص (غيمة عطر) للقاص والروائي حميد الربيعي، التي كتب على غلافها متوالية قصصية، هي سرد  من نوع آخر.  يتتابع الحدث مصحوبا بمرموزات حكائية تواجهها الشخصية المحورية في امتداد زماني ومكاني، يؤسسان لبناء نص فيه مقاربة ويتماهى مع النص المجاور له، فينشغل المتلقي بالتحليل والتأمل والمقارنة . توقفت عند نصين هما "عطر " ص 31 و "غيمة " ص 39 .
وفي الحديث عن عتبة العنوان سيكون مأخوذا من هذين النصين المتجاورين، بطريقة دمج الوقائع واحلال صورة وصفية محلهما، تنمو مع تقدم الحدث ليساند ثيمة كل منهما، ويُخيل للرائي للغلاف أنه عنوان لاحدى قصص المجموعة. في العطر تكون الفتاة هي حلم الراوي، وفي غيمة تكون الفتاة هي من تلاحق فتاها.
تشتركان في خصائص روي متشابكة، ولكنهما تلتقيان بثيمة واحدة اراد لها السارد ان تكون معكوسة. ثمة ما يجعلهما تسيران في خط واحد، هو وجود الاثر الذي يتوالى ويدفع السرد الى فك الشفرات بلغة ناعمة ، فالمطر هو الدال الحاضر بقوة في النصين، ومنحه الكاتب قيمة حكائية ورمزية واضحة وكأنه يوجه الحدث وفق انسيابيته ومدى هطوله، وهو ما نجده كثيرا، فيعكس مدى الشاعرية وهوس الرغبة في كل نص. 
في الاثر الاخر " كراج الامانة " ثمة من يدور ويقترب منه ليكتمل الهدف، ان كان في العطر او في غيمة، فيكون دالا مؤثرا بحسب ارتباط المكان بالسرد، وهو مؤثر سردي بالغ الاهمية لارتباطه بأصل الحكايتين ، تأتي العجوز العرّافة والعجوز صاحبة الكتب القديمة، كثابت مشترك بينهما، هي من تحدد المصائر، هو يذهب اليها في العطر وتمنحه الامل، وهي تذهب اليها في غيمة لتعطيها الامل بالعثور عليه من خلال  استخدام ما تطلي به جسدها لتتركه الى المطر ليغسلها. 
في حين يجيء الوصف كدال مكمل لسير السرد في الحالتين، ويصنع لوحة من التعابير والرؤى المتدفقة . كما يطغى المكان عليهما بتأثير واضح، وهما يبحثان عن غريمهما كل على حدة . وسيطرة المكان لا يعني انهما غارقان في لجته، بقدر كونه يفسح المجال للسرد ليأخذ مداه التعبيري اكثر وابلغ . 
في النص الاول  " عطر " ينحو السرد تصاعديا، تسانده لغة تتحول لأدوات موجهة للوصول الى قلب الحدث ، فنجد المطر، يجمع كل الاحداث المروية تحت خيمته ولا يبرح الا عندما تتدخل احداث اخرى لتزيح هذه السطوة، عندما تقول العجوز كلمتها  ويذعن الراوي " المغرم " الى كلامها الذي يصدق في النهاية. فتتجمع باقة العناصر الاخرى لتدفع السرد نحو فك العقدة، ويحصل الراوي على 
مبتغاه. 
اما العطر فهو دالة التأثير القوي والباعث على الدخول الى عوالم من البهجة والجمال، وهو يستحضر المكنون ويتماهى مع الشخصية حتى نخال انها 
سحرت به. 
الشخصية هنا ليست متكورة جامدة ، بل هي متطورة بالغة الحركة والتخيل بفعل الحلم الكبير الذي تحمله، وهو الاقتران بالفتاة، حتى لو استعان بالعرافة العجوز، ليضعنا القاص امام اشكالية العطر والمطر، تلك الثنائية التي وجهت النص الى آفاق من التخييل والتأويل، لكنها تساعد في حل التشابك من خلال حركة الفتاة الاخيرة بنقرها على الشباك، دليل الترويض والتفاعل مع كل الحركات التي ظل الراوي يمارسها طيلة الزمن الذي ادخلنا فيه النص 
السردي. 
تخلل السرد الكثير من التشبيهات والوصف والافتتان والقبح والاسئلة الباحثة عن معنى. انه العطر كما اراده حميد الربيعي وكما جعلنا نتوقف عنده 
ونتأمله .
في النص الآخر " غيمة " نحن امام ثيمة معكوسة تماما؛ الفتاة تبحث عن عشيق او شاب يلبي ما مكنون في قلبها.  
تتعانق ذات العناصر في عملية البوح ؛ المطر والعطر وكراج الامانة والعجوز .. انها تراتبية تنمو في سياق السرد تصاعديا فتخدم الثيمة المتداخلة مع الحدث المغلف بلغة ازاحت مكامن الخوف والرهبة والترقب ، وتجعل كل شيء وكأنه في متناول اليد . ان المتوالية القصصية ، قد يكون مصطلحا جدليا حديثا ، لكنه منح للكاتب حرية الترتيب التتابعي للحدث والثيمة، وان كانت متوازية مع  اسلوب القص. 
وهنا نتساءل؛ هل تعد المتوالية القصصية جنسا سرديا جديدا، أو هي تختلف عن باقي اجناس السرد؟  
هذا الجدل يمكن ان تجيب عنه النصوص نفسها، من خلال التتابع والتركيز وفرز المقومات  التي تجيز اعتبارها جنسا مستقلا  ليس له علاقة بأي جنس اخر، وهو ما اسس له القاص والروائي حميد الربيعي في كتابه " غيمة مطر " التي كانت ابتكارا في طريقة العرض والثيمات المتشابهة، ولكنها غير متشابهة في نفس الوقت . 
إن انجذابي لغيمة عطر كان اكثر، لأني وجدت فيه تصورا ووصفا واسعا لحالات قد تكون في متناول الكتابة، لكنها ليست كذلك قطعا.. انها بناء يستوجب القراءة والتحليل، كي نعطي المجموعة حقها، مع اعتقادي المؤكد بأن مصطلح متوالية قصصية سيجد اهتماما كبيرا من النقاد والدارسين، لانه بصراحة يفتح شهية البحث والتركيز على جنس مبتكر، يمكن له ان يأخذ مدياته في التطور 
والثبات. ان غيمة عطر ثنائية متعاكسة تماما برغم انها تتشابه في عدة عناصر بنائية ومكملة لها، وتختلف تماما في الثيمة التي كانت تستحق
التأمل .