إشكالية الخلاص الروحي بين الحلم والواقع

ثقافة 2020/06/07
...

جبار الكوّاز
(أختفي في الضوء) مجموعة شعرية للروائي والقاص والشاعـر (عـلي لفته سعيد)، الذي يحتفي بالكلمة الموقف، والكلمة الأولى التي استغرقت حياة الإنسان، عابراً حدودها المبتكرة في أشكالها وأنساقها وأقباسها عـبر التاريخ ، فهو الروائي المميّز والقاص اللامع والشاعر المميّز.
 
 
 
 ولم تكن هذه الاضمامة الإبداعية منطلقة بعفوية عابرة اقتضتها طبيعة المواقف والتجارب التي عاشها، وإنما - وهذا رأي شخصي - هي قادمة عن وعي إنساني متقدم يدرك ما للشعر أو الرواية أو القصة من مكانة استثمارية إبداعـية، تمكنه من التنقل عبر مكوناتها بصورة حرّة وحركية قادرة على التعبير وفق تلك الرؤية وذلك الوعي، وإذا قال الفيلسوف ببلاشير: (العنوان ثريا النص)، فهل يمكننا أن نمسك بهذه الثريا الكبيرة لتقودنا إلى لجج النصوص، لندرك حينها أنها حقاً ثريا كاشفة ونابضة في طيات هذا السفر المترع بالشعرية والجمال، يستوقفنا الإهداء أولاً كإشارة دالة إلى ذلك 
[ إلى امرأة أحببتها/ قاسمتني الحياة/ وألهمتني الشعر/ وتركتني وحيداً معها ]، هذا الإهداء الضام لتأويلات قارة تحت جلد كلماته، يقودنا مجبرين إلى الاستدلال به، بعد أن نلقي أسئلتنا 
الكاشفة:
- من هذه المرأة التي أحبها الشعـر 
وقاسمته الحياة ؟ .
- كيف ألهمته الشعـرَ ؟.
- ولماذا تركته وحيداً معها ؟! ومع من ؟.  
هذه الأسئلة المشاكسة لا يستطيع الشاعـر الإجابة عنها إلاّ بنصوص المجموعة، ولكن ثمة أسئلة أخرى خارج إطار منظومة الأسئلة آنفاً، هي: (لماذا ألهمته الشعر ؟!)، ما دور الشعر في تشكيل شخصيته الثقافية 
والإبداعية؟ 
وما انعكاساته على مجمل نتاجه 
الإبداعي؟، هل هو إقرار من الشاعـر الذي تميّز في نتاجه الروائي والقصصي، وأثبت أنه في طليعة الساردين العراقيين الذين تناولوا الواقع بشجاعة وثقة وإقدام، وكشف المستور الذي انطلقت شظاياه عـلى البناء الظاهر للحياة في عراق إشكالي ممتلئ بالتناقضات والصراعات عـلى مختلف أنواعها وأشكالها، ولا شك عندي بأن الإجابة لا تكمن عند الشاعـر بذاته، بقدر حاجتها إلى الإعلان عبر دراسة مقارنة لنتاجه الإبداعي، والوصول إلى قناعات راسخة أن الشعر لديه هو الفن الأول الذي تغلغل في الفنون الكتابية الأخرى التي أجاد بها وتميّز في تأثيراتها بعامة وبخاصة، تقودنا هذه المجموعة لترسيخ قناعة من خلال النصوص أن الشعر وإن كان نتاجه المنشور أقل بكثير من بقية الفنون السردية، إلاّ أنه يشكل المثابة الكبرى (لعلي لفته سعيد) في إنجاز هذا الهرم الإبداعي السردي الذي تميّز به بشهادة
الجميع. 
قسم الشاعـر المجموعة إلى قسمين رئيسين، الأول تحت عنوان (أخذتك من الضوء)، والثاني تحت عنوان (يختفي في الحلم)، وبين هذين القسمين يقف العنوان الرئيس للمجموعة ليكون شاهداً على ما أدركه الشاعـر بوعـيه ليقول كلمة الفصل في أهمية الشعر في حياته، مبدعاً سارداً متقدماً في المشهد العراقي .
وتحت كل قسم نقرأ مجموعة من نصوص دالة على كناية كبيرة، تريد أن تقفز من لججها لتثبت للمتابع وللدارس وللقارئ أنها مخلصة في بث أقباسها، لتشكل الإطار والجوهر الحقيقي للعنوان الفرعي لكل قسم، ففي نص بعنوان (لعلّ عساكِ تدلكِ)، وهو عنوان ذو تركيبة لغوية غريبة قد لا يدركها القارئ العابر بسهولة، إلاّ أنه ينفتح مباشرة عبر الجملة الأولى له إلى كشف مغاليق هذه التركيبة، يقول 
فيه : 
[ وتكفرين بما كان بين يديك/ إلهك الذي سجد كثيراً على صدرك/ تلا آياتك العاشقات/ حتى انتهاء الفجر سجودا]  .
فالشاعر في هذا المقطع الافتتاحي للنص أمام انغمار حلولي روحي، بين ذات كبرى معبودة وذات أكبر عابرة، هذه الإشكالية في الرؤية تقودنا إلى إدراك إشكالي أيضاً لطبيعة هذه الطقوس التعبدية التي ينقلب فيها الإله الأعظم إلى ساجدٍ، أمام ذات أقلّ شأنا منه، إلاّ أنها تحوز على خصال تقوده إلى أن يكون عابداً بذاته لذاتها التي ابتدعها ساجداً حتى انتهاء الفجر، من هي هذه المخلوقة المعبودة من الإله الأكبر ؟
أهي السرّ الخلاّق الذي لا يدركه إلاّ العارفون من الآلهة والروحانيين ؟! ولماذا تنتهي طقوس عبادته لها مع قدوم الفجر، ومن ثم يصرخ (أختفي في الضوء)، أهي الإشارة الدالة الكبرى إلى طبيعة هذه العلاقة الروحانية التي تتلاشى فيها حدود الخلق، أمام خلق جديد لا يمارسه الإله بل تخلقه الكلمة الفصل 
الحق . 
وفي نص آخر من القسم الأول  (فاتحة الغزل).    
}أفكر بالفردوس .. كيف نكون معاً ؟!/ أنا وأنت .. والأيكة التي لا ظلّ لها{  .
[وأنت تمارسين دورك في إرضاء حروفي/ حتى إذا أغمض الفجر عينيه/ أشرقت عيناك على الخضر ]، نص (قيامة 
الورد) .
[ وما كنت أعرق/ إني كنت نائماً/ واليقظة أخذت صمت الأكف على الجدران ]، نص (بائع الأحلام).. وهكذا تتجلى هذه الرؤية التعبدية من خلال التقابل الدلالي بين عابد لمعبود ومعبود لعابد، حتى تتلاشى الحدود الزمانية والمكانية بينهما فيتحدا في ذات واحدة، 
لا يمنعها ضوء أو ظلام من هذا الارتماس الروحي في تشكيلها، مع أن القسم الأول يشير عنوانه إلى حديث عن الضوء، إلاّ أنه ضوء خاص متنافذ بين ليل داج ونهار مشرق، فيكون الضوء الروحي علامة من علامات الاختفاء في الضوء . 
ولو تصفحنا نصوص القسم الثاني، (يختفي في الحلم)، فالشاعـر في هذه النصوص يلجأ إلى أحلام يختفي فيها هروباً من حالة التبادل الروحي التي اكتنفت نصوص القسم الأول، ففي نصّ بعنوان (أبونا) يقول الشاعر : [أبونا .. يحلق بجناحين من توبة/ وأسراب من صلاة/ وقوافل من محبة/ قطعنا بها صحراء العمر]، ربما يلخص هذا النص سيرورة القسم الثاني الذي يحاول فيه الشاعر أن يمضي عميقاً في صناعة أحلامه التي يصيرها في كناية كبرى، محاولاً من خلالها الخلاص في لباسه الدنيوي، باللجوء إلى حلول مؤقتة، مجتهداً بالانصهار فيه ليشكل ذاته الحقيقية من خلال تلك الأحلام، فالأب وهو السلطة الكبرى في الكون ما زال محلقاً بجناحي التوبة وتهجدات الصلاة وهتافات المحبة، ليقطع بها صحراء العمر الدنيوي القاسي الذي يتوق بقوة للتخلص منه أو الانعتاق ، وفي النصوص المتأخرة من هذا القسم يفصح 
الشاعـر عن حلمه الواقعي، مغادراً الحلم الصوفي الذي سكنه طويلاً، هذه المغادرة تنبئ بأن المبدع حالماً كان أو متشائماً، يحتاج إلى هزات قوية مؤثرة ليشكل واقعه من 
جديد.. 
وهذا ما تقوله المجموعة عبر الربط بين عنوانها الرئيس (أختفي في الضوء)، وعنوانيها الفرعيين (أحدثك عن الضوء) و (يختفي في الحلم) ، فنحن إزاء معادلة روحية حلولية ينغمر فيها المبدع، محاولاً إنقاذ روحه من هول الواقع الذي يحيطه بابتداعه وانتمائه للضوء دليل الحائرين، وللحلم غاية الواعـين، عبر تقابلية شعرية فـذة اعـتمدت رؤيا الحلم ورؤية الواقع، متنافـذة ومشاكسة، ليؤكد اختفاءه في الضوء المصطنع الذي حاكته أصابع خفية هي أبعد عن الروح القدسي لجوهر الضوء الحقيقي في هذا العالم
الكبير.