حميد المختار
في مطلع الثمانينيات من القرن المنصرم، كتبت نصا قصصيا عنوانه (يوتوبيا في الظلام)، الذي صار في ما بعد واحدا من نصوص مجموعتنا القصصية الأولى (أصوات عالية)، بمعية القصاصين شوقي كريم وعبد الستار البيضاني وعلي حميد عودة وحسن متعب الناصر، وكان نصا يبشر بأدب المدينة الفاضلة، وهو اتجاه فكري وفلسفي منتشر في العالم، على الرغم من انني في كتاباتي السردية عامة اتجه إلى المنحى المعاكس تماما، واعني به الـ(ديستوبيا)، لكنني اضمر املا ما زال ينبض بالحب والأمل رغم الواقع المرعب الذي صار مقابلا ومضادا
لليوتوبيا.
فالديستوبيا هو مجتمع خيالي وعالم وهمي يحكمه الشر، ويتجرد فيه الإنسان من انسانيته، ويتحول فيه المجتمع إلى مجموعة يتقاتل بعضها مع البعض الآخر، ولهذا صار مصطلح الديستوبيا بمثابة ادب المدينة الفاسدة، وقد كتب الكثير من هذا الأدب في العالم ضمن هذا التوجه، منذ كافكا بمجمل أعماله، ورواية 1984 لاورويل، ورواية 451 فهرنهايت لـراي براد بيري، وكذلك الدوس هكسلي في روايته عالم جديد شجاع، وجاك لندن في روايته العقب الحديدية، وانتوني بيرجس في روايته البرتقالة الآلية، والكثير الكثير من الروايات التشاؤمية التي حملت نظرة سوداوية عن الواقع المعاش والخوف من المستقبل المحمل بنذر الشر والموت، اما في ما يخص السرد العربي، فهناك أيضا أمثلة كثيرة استطاعت ان تؤسس لنظرة ديستوبية واضحة، من خلال نصوص روائية مر عليها عقدان من الزمن، فهناك مثلا احمد خالد توفيق في الكثير من رواياته، ومحمد ربيع في روايته عطارد، وواسيني الأعرج وسعود السنعوسي وبثينة العيسى، وفي العراق وحيد غانم وروايته الحلو الهارب إلى مصيره، وكذلك نصيف فلك ورواياته خضر قد وقياموت وفص دوكو وروايتي تابو، وكذلك احمد خلف وروايته محنة فينوس، واحمد سعداوي وروايته فرانكشتاين في بغداد، وحميد الربيعي وروايته احمر حانه، وقد بدا هذا المسار السردي واضحا في هذه النصوص وفي غيرها من روايات لا يسعني ذكرها لضيق
المجال.
إذ استطاعت الرواية العراقية ان تؤسس لها مسارا ديستوبيا واضحا، نظرا للمتغيرات المتزلزلة التي حدثت للمجتمع العراقي من عصر الدكتاتور، والانتقال الدراماتيكي إلى عصر الديمقراطية المعبأ بالخوف والإرهاب والفساد السياسي، الذي ترك بصماته واضحة على واقع مر ومؤلم زاد الطين بلة، ونفث في نفسية الفرد العراقي الحزن والتشاؤم والهروب من الواقع الفاسد وصنع واقع بديل، لهذا فقد كان التأثير الغربي واضحا في هذا المسار السردي الجديد الذي اعتور الرواية العراقية والعربية بالعموم، وأعتقد بأن ما أحدثه وباء كورونا على العالم سيفتح الأبواب على مصاريعها في بث مفاهيم جديدة ورؤى وخيالات واوهام، وابراز لعبة المؤامرة الدولية الماسونية التي صارت تتمظهر من جديد وتعلن عن نفسها من خلال بث مقالات وفيديوهات ومنشورات في مواقع التواصل الاجتماعي، تبشر بالخطط الشيطانية لاختصار سكان الكرة الأرضية وتوحيد الحكومات بحكومة واحدة، وتوحيد العملة لتصبح عملة عالمية واحدة أيضا، فتكون حكومات العالم مختصرة بحكومة دكتاتورية مستبدة، هذه الحكومة التي ستفني شعوب الأرض بالاوبئة والحروب، حتى تتحكم وتسيطر على مقاليد الحكم في العالم، وتقوده إلى ديستوبيا
بعيدا عن ذاته وأرضه وتاريخه، وليموت مصطلح اليوتوبيا إلى الأبد.