كورونا.. العالم بلا قبلات

ثقافة 2020/06/07
...

عبد الزهرة زكي
الذين يعتقدون بإمكانية تغيّر العالم بعد مرحلة كورونا، يمتدّ خيالهم إلى إمكانية تغيير الكثير من العادات والتقاليد الراسخة، حتى ما يمس منها المشاعر والعواطف الإنسانية. قبل العواطف بدأ العمل فعلاً في عديد من الدول المقبلة على تجاوز الإغلاق، من أجل إجراء تعديلات وتغييرات في الحدائق العامة وطرق السير، للمشاة، ووسائل النقل، 
أو فرض التغييرات في المطاعم والبارات وأماكن التسوق، بما يحقق التباعد الجسدي.
يؤكد عمدة لندن صادق خان في هذا السياق النية لغلق أكثر المناطق ازدحاماً بالعاصمة أمام السيارات، لصالح اقتصارها على حركة المشاة. التمشي حياة فردية بينما الباصات اختلاط جماعي.
هذه إجراءات طارئة قد تكون وليدة الحياة من دون لقاح ضد كورونا، بعض الطارئ قد يستمر دائماً، لكن الحياة في حال توفر اللقاح ستعمل على العودة تدريجيا لطبيعتها، إنما مستفيدةً ومبقية على ما هو إيجابي ومفيد من تغيرات الطوارئ، حين لا تعرقل الحياة الطبيعية المألوفة.
كانت الحياة دائما سعياً حثيثا من أجل التقارب ما بين البشر، لم تكن الحياة المتحضرة لتكون من دون تحقق التقارب والتقدم فيه. ومع التقارب نشأت تقاليد وأعراف وجدانية وعاطفية تعزز التقارب وتشدّ الصلة ما بين البشر.
القبلة في المقدمة مما هو مستهدف بالتغيير، والقبلة، بعد المصافحة، هي في مقدمة هذه الممارسات والتقاليد والعادات ذات الصلة بالتعبير من خلال التماس الجسدي عن العاطفة الإنسانية بشكل عام. التغيير لا يقف عند تحقيق التباعد، التغيير يسعى لإعادة تنظيم سبل التعبير عن العاطفة بما يحقق التباعد فعلاً. تنشر الكاتبة الروائية البريطانية جوانا بريسكو مقالاً ممتعاً، وسأكتفي هنا بالتوقف عند عنوانه فقط:" انظر، ولا تلمس: كيف للأدب العظيم أن يعلمنا الحب من دون ملامسة". وكان المقال جولة في أعمال أدبية عبرت بجانب منها عن هذا الحال، الحب بلا ملامسة، فاستذكرت مع المقال أدبنا العذري.
لكن القبلة مختلفة على أكثر من وجه وأكثر من داعٍ؛ القبلة هي تعبير جسدي مباشر، من خلال التماسِّ والاندماج، عما هو روحي ووجداني حيناً، وعن تراتبية اجتماعية أو سياسية أو دينية حيناً آخر. في الحال الأول، الوجداني، يكون التقبيل اختياراً حراً، بينما يحتمل التقبيل في بعض الحال الثاني، بدافعه التراتبي، الاضطرار أو الإكراه. جاء في مستهل كتاب الجاحظ (التاج في أخلاق الملوك)، في باب دخول الأشراف على ملك، ما يلي: " إن كان الداخل من الأشراف والطبقة العالية، فمن حق الملك أن يقف منه بالموضع الذي لا ينأى عنه، ولا يقرب منه، وأن يسلّم عليه قائماً، فإن استدناه، قرب منه، فأكب على أطرافه يقبلها، ثم تنحى عنه قائماً، حتى يقف في مرتبة مثله، فإن أومأ إليه بالقعود، قعد". هذا تقبيل بدافع التذلل وتعبير متكلف عن الولاء.
هناك صيغ تعبير، بمناسبات اجتماعية مختلفة، للتقبيل، وهي تختلف من مجتمع إلى آخر؛ قبلات الخد، والكتف، والجبين، والرأس، واليد، وحتى القدم، كما في مثال الجاحظ. إنها قبلات تتحكم بنوعها أحياناً المناسبات وطبيعة العلاقات الإنسانية وتراتبها. تقبيل اليد في مجتمعنا (وفي بلدان أخرى كتركيا وإندونيسيا وماليزيا مثلاً، وحتى في الغرب الكاثوليكي) يقترن عادةً باحترام الأكبر عمراً أو منزلةً، من باب الاحترام لا الإذلال، لا ينفي هذا طبعاً أن تقبيل اليد " بدأ كبادرة خضوع رسمي أو تعهد بالولاء من رجل لرجل"، بحسب تعبير ويكبيديا الذي يضع على صفحة تعريفه بقبلة اليد صورةً لامرأة بلغارية تقبّل فيها يد الإمبراطور البلغاري فرديناند عام 1916، بينما تقبيل يد المرأة لدى مجتمعات الغرب، الأرستقراطية المحافظة بشكل أخص، يعبّر عن رمزية أخرى حيث يقدّمها في العادة الرجالُ للنساء، إنها شكل (محايد) من الاحترام للأنوثة، وللسيدات الأرستقراطيات خاصةً، وهذا تقبيل آخذ بالانقراض، فهو بوجهٍ ما يعبّر عن فوارق في الجندر، تعالٍ ذكوري غير مباشر لا تخفيه حتى فحوى الاحترام الذي تتقدم به هذه القبلة من شفة رجل لكف سيدة مصحوبة بانحناءة ربما مبالغ فيها، إنها لحظة تنازل ذكوري زائف أمام فرد أنثى، مقابل تاريخ فعلي من الاستعلاء الذكوري على المجموع
الأنثوي. 
يقابل هذا التقليد تقليدٌ في مجتمعاتنا، الريفية بشكل عام، حيث يجري تقبيل رأس السيدة الأكبر سناً من قبل رجال من الأقارب والمعارف تجمعهم بالسيدة وعائلتها علاقات احترام وتوقير واعتزاز. لكن في الريف العراقي والبادية وحتى ببعض المدن، وربما ببلدان أخرى، يتم تقبيل الرجل أيضاً في الرأس أو الجبين بمناسبات خاصة، يجري من خلالها التعبير عن عاطفة إعجاب وإكبار وتقدير للرجل، شاباً أو شيخاً، وغالباً ما تقترن هذه العاطفة بحدث أو دَور أو مناسبة يستحق بموجبها المحتفى به أن يُقبَّل رأسه، كالفوز أو النجاح أو الانتصار أو قيامه بفعل إنساني رجولي غير عادي. لكن قبلة الشفاه للشفاه هي قرينة الحب والعشق، وتظل هي الرسالة الجسدية الثابتة والمباشرة والشائعة عند مختلف الأمم، تعبيراً عن هيام وتعلق، إنها قبلة حب سواء كانت بفحوى إيروتيكية أو من دونها.
القبلات باختلاف نسخها معرضة للاختفاء، ما دامت هي حالياً موضع صدود أو منع، باتفاق اجتماعي تقتضيه مقاومة الوباء، مجرد التقارب الجسدي بات مصدر تهديد، فكيف الحال بالمصافحة والتقبيل. العالم يتغير ويصرّ بعض المتشددين لصالح دعوى التغيير على وجوب أن تختفي القبلة في عالم ما بعد كورونا.
يستعيد الكاتب الصحفي البريطاني كريس ستوكيل ووكر، في مقال له ذكريات منع التقبيل، عبر التاريخ، مشيراً إلى أنه لم يكن شيوع مرض نقص المناعة (الإيدز) في ثمانينيات القرن العشرين أول سبب للتحسّب أو لتكريه التقبيل بصيغته العاطفية، التقبيل الفموي، حيث يختلط اللعاب وينتقل من فم لآخر، وكان هذا ينظر إليه بوصفه من عوامل نقل عدوى الإيدز الذي كانت الإصابة به تشكل عاراً، لكن النتائج الطبية لم تثبت مسؤولية اللعاب عن نقل العدوى. قبل الإيدز بقرون كان ملك انكلترا هنري الخامس في القرن الخامس عشر قد أصدر أمراً ملكياً بمنع التقبيل، في محاولة للحد من انتقال وانتشار الطاعون، وهو ما طالب به وزير الصحة الفرنسي مؤخراً، لم يرد الوزير المنع وإنما التكريه بالقبلة والحثّ على تعطيل هذا 
التقليد.
قبل الملك الانكليزي، وما بعده، كانت القبلة، وبقيت، التعبيرَ العاطفيَّ الأشدَّ تمثيلاً للوجدان الإنساني. يحفظ الشعر السومري وبعده الشعر الفرعوني، ومن ثم نشيد الإنشاد وكثير من آداب وفنون البشرية تاريخاً عميقاً للقبلة، بمختلف نسخها، إنه تاريخ يقترن بالحب والصداقة والأخوة ما بين البشر. وما نفكر فيه حالياً تحت ضغط الوباء من الممكن أن يستحيل إلى محفوظات في أرشيف التاريخ الإنساني بمواجهته المحن، القبلة نتاج الحياة في لحظات تدفّقها الأعمق، بينما المنع والحظر هما نتاج لبعض أسوأ لحظات انتكاس حياتنا. هذه تقاليد لا تتغير بقرارات أو أوامر، قد تتطور وتتعدل وتتبدل، إنما بموجب الإرادة الإنسانية الحرة وليس بمقتضى ظرف طارئ تجاوزت البشرية ما هو أتعس منه.
تاريخ البشرية يمضي قُدماً، مخلّفاً وراءه الانتكاسات والأهوال، ولعلّ قبلة ساخنة واحدة تكفي لمحو ذكرى أية انتكاسة في العاطفة والوجدان الإنساني. القبلة تماسٌ عميق، وكان كيتس يقول:" التماس
ذاكرة".