جريمة إفشاء الأسرار الوظيفيَّة في التشريع العراقي

العراق 2020/06/09
...

القاضي كاظم عبد جاسم الزيدي
 
لا شك بأنَّ الموظف وعند قيامه بأعمال الوظيفة العامة يطلع على الكثير من المعلومات والتي تعدُّ من الأسرار الوظيفيَّة ويعدُّ الحفاظ عليها من أهم الواجبات الوظيفيَّة.
 
حيث تقتضي أصول ومبادئ الشرف والأمانة والاعتبار الالتزام بعدم إفشاء الأسرار الوظيفيَّة ومعنى الأسرار الوظيفيَّة وفقاً لقانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 المعدل متعددة منها المعلومات والمكاتبات والمحررات والوثائق والرسوم والخرائط والصور، وغير ذلك من الأشياء التي قد يؤدي كشفها الى إفشاء معلومات تخص مصلحة الدفاع عن البلاد والمعلومات الحربيَّة والسياسيَّة والاقتصاديَّة والصناعيَّة التي هي بحكم طبيعتها لا يعلمها إلا الأشخاص الذين لهم صفة في ذلك. والأخبار والمعلومات المتعلقة بالقوات المسلحة وتشكيلاتها وتحركاتها وعتادها وتموينها، والأسرار المضرة بمصلحة الدولة والأسرار الخاصة التي تتعلق بشأن التحقيقات أو الإجراءات في دعاوى النسب أو الزوجيَّة أو الطلاق أو التفريق أو الزنا.
ونشر أسماء أو صور المجنى عليهم في جرائم الاغتصاب والاعتداء على العرض وأسماء وصور المتهمين الأحداث.
ولا تقتصر حماية الأسرار الوظيفيَّة في التشريع العراقي على قانون العقوبات، وإنما تم تنظيمها في الكثير من التشريعات، منها قانون ضريبة الدخل، إذ نص على المعلومات التي يحظر إفشاؤها وهي جميع الأوراق والبيانات والتقارير وقوائم التقدير والمعلومات المتعلقة بدخل المكلفين.
وكذلك في قانون المطبوعات، إذ حظر نشر محاضر سير التحقيق في الجرائم وأوامر حركات القوات المسلحة والشرطة أو أية قوة وطنيَّة.
وكذلك في قانون أصول المحاكمات الجزائيَّة وقانون رعاية الأحداث وكذلك في قانون البريد، إذ حرم المشرع العراقي كشف المراسلات البريديَّة إلا لضرورات العدالة والأمن وقانون هيئة المخابرات الوطنية وقانون مجلس الدولة وقانون المحكمة الجنائيَّة العراقيَّة العليا.
كما يعدُّ إفشاء الموظف للأسرار الوظيفيَّة ذنباً إدارياً على وفق قانون انضباط موظفي الدولة، ويعدُّ عملاً غير مشروعٍ إن أفضى الى إلحاق الضرر بالدولة والأشخاص المعنيين، بما أفشاه من أسرار على وفق أحكام القانون المدني التي تلزم من أحدث ضرراً بالغير بتعويض من أضرَّ به في ماله أو نفسه.
وقد أسبغ المشرِّعُ العراقي وصف الجريمة الجنائيَّة على فعل الإفشاء على وفق أحكام قانون العقوبات، إذ نصت المادة (236) من قانون العقوبات على: (يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على سنتين وبغرامة لا تزيد على مليون دينار أو بإحدى هاتين العقوبتين من نشر بإحدى طرق العلانيَّة:
1 - أخباراً بشأن محاكمة قرر القانون سريتها أو منعت المحكمة نشرها، أو تحقيقاً قائماً في جناية أو جنحة أو وثيقة من وثائق هذا التحقيق إذا كانت سلطة التحقيق قد حظرت إذاعة شيء عنه.
2 - أخباراً بشأن التحقيقات في دعاوى النسب أو الزوجيَّة أو الطلاق أو الهجر أو التفريق أو الزنا.
3 - مداولات المحاكم.
4 - ما جرى في الجلسات العلنيَّة للمحاكم بغير أمانة وبسوء قصد.
5 – نشر أسماء أو صور المجنى عليهم في جرائم الاغتصاب أو الاعتداء على العرض، وأسماء وصور المتهمين الأحداث.
7 - ما جرى في الدعاوى المدنيَّة أو الجنائيَّة التي قررت المحاكم سماعها في جلسة سريَّة، أو ما جرى في التحقيقات أو الإجراءات المتعلقة بجرائم القذف أو السب أو إفشاء الأسرار.
ولا عقاب على مجرد نشر الحكم إذا تمَّ بإذن المحكمة المختصة، كما نصت قوانين أخرى مثل قانون التعبئة وقانون الخدمة البحريَّة المدنيَّة وقانون كتاب العدول على عدم إفشاء الأسرار المهنيَّة، وكذلك قانون تنظيم محلات السكن والإقامة داخل العراق، كما نص قانون الإثبات العراقي على عدم جواز قيام الموظف بإفشاء ما وصل إليه علمه من الأسرار الوظيفيَّة.
حيث نصت المادة (88) من قانون الإثبات على: (لا يجوز للموظفين والمكلفين بخدمة عامة إفشاء ما وصل الى علمهم أثناء قيامهم بواجباتهم من معلومات لم تنشر بالطريق القانوني ولم تأذن الجهة المختصة في إذاعتها ولو بعد تركهم العمل ومع ذلك فلهذه الجهة أنْ تأذن لهم بالشهادة بناءً على طلب المحكمة أو أحد الخصوم). كما نص القرار (132) لسنة 1996 على «عقوبة الحبس بحق إفشاء الأسئلة الامتحانيَّة، إذ نص على:
(يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن سنة كل من سرَّبَ أو أفشى أو أذاعَ أو تداول بصورة غير مشروعة أسئلة الامتحانات المدرسيَّة النهائيَّة أو أسئلة الامتحانات العامة)، وتكون العقوبة السجن مدة لا تزيد على سبع سنوات إذا كان مرتكب الجريمة عضواً في لجان الامتحانات أو من واضعي أسئلتها أو مكلفاً بالحفاظ عليها أو بتهيئتها أو بتغليفها أو بترجمتها كما نص قانون البنك المركزي العراقي على إلزام سائر موظفيه بعد إفشاء ما يتناهى إليهم من أسرار بحكم عملهم.
كما نصت المادة (29) من قانون العقوبات العسكري المرقم (19) لسنة 2007 النافذ بوجوب إنزال عقوبة الإعدام على موظفي وزارة الدفاع والقوات المسلحة إذا ما ارتكب أحدهم جرم إفشاء السر أو سر الليل أو الإشارة الخاصة أو التنبيهات أو الوصاية السريَّة المختصة بالحراس والخفراء والمخافر والشفرات العسكريَّة أثناء زمن النفير بقصد إعانة العدو والإضرار بالجيش أو إحدى قوات الحكومات المتحالفة معه.
وبالمثل حين يفضي فعله الى قتل أو موت واحدٍ أو أكثر من العسكر أو المدنيين عمداً، وإنَّ العلة من تجريم إفشاء الأسرار الوظيفيَّة هو الضرر الذي يلحق بالدولة، سواء كان ضرراً اقتصادياً أو عسكريا أو سياسياً تبعاً للمصلحة العامة التي تتضرر منها أو يمكن أنْ يلحقها ضررٌ بالإفشاء، وبالمثل حرم الإفشاء رعاية لصالح الأشخاص المعنيين بهذه الأسرار ولاتقاء الضرر المادي أو الأدبي الذي من المتصور وقوعه بهم من جراء هذا الإفشاء، لا سيما إذا ما ارتبطت الأسرار المنتهكة بحرمة الحياة الخاصَّة.
فإفشاء هذه الأسرار هو عدوانٌ على حق أصحابها في سترها وحمايتها والاحتفاظ بها ومنع غيرهم من كشفها، حتى ولو كان موظفاً، فالإفشاء والحالة هذه تدخل تحت مفهوم القذف والسب.
لذا فإنَّ من أهم واجبات الموظف المحافظة على هذه الأسرار حرصاً على المصلحة العامَّة وحماية لمصالح الأفراد التي تتعلق بهم.
فالحفاظ على أسرار الوظيفة العامَّة هو التزامٌ أخلاقيٌّ، فضلاً عن الالتزام القانوني المنصوص عليه في قانون انضباط موظفي الدولة، إذ من واجبات الموظف كتمان المعلومات والوثائق التي يطلعُ عليها بحكم وظيفته أو أثنائها إذا كانت سريَّة بطبيعتها أو يخشى من إفشائها إلحاق الضرر بالدولة أو بالأشخاص أو صدرت إليه أوامر من رؤسائه بكتمانها، ويبقى هذا الواجب قائماً حتى بعد انتهاء خدمته. ولا يجوز له أنْ يحتفظ بوثائق رسميَّة سريَّة بعد إحالته على التقاعد أو انتهاء خدمته بأي وجهٍ كان.
ويقع إفشاء الأسرار الوظيفيَّة بكل تصرف فعلي أو قولي يفضي الى كشف الأسرار الوظيفيَّة أو هتك أستارها حتى لو اقتصر على الإشارة أو التلميح، ما دام قد نقل الأسرار من الخفاء الى العلن أو من الغموض والإبهام الى البيان والتوكيد.
ويقع الإفشاء بالقصد العمد كما يقع بالإهمال وإنَّ إفشاء الأسرار الوظيفيَّة لشخصٍ واحدٍ كإفشائه لطائفة أو للناس كافة، إذ ليست العبرة في العدد بل العبرة في هتك هذه الأسرار وكشفها للغير.
وقد أباح المشرِّعُ العراقي للموظف أو المكلف بخدمة عامَّة إفشاء ما تناهى الى علمه من الأسرار بسبب وظيفته أو أثناء ممارسته لمهماتها متى ما كان القصد من وراء إفشاء هذه الأسرار هو الإخبار عن جناية أو جنحة ارتكبتْ أو الحيلولة دون ارتكابها.
حيث نصَّتْ المادة (437) من قانون العقوبات على (.. ومع ذلك فلا عقاب.. أو كان إفشاء الأسرار مقصوداً به الإخبار عن جناية أو جنحة أو منع ارتكابها..).
وكذلك نصَّتْ المادة (89) من قانون الإثبات التي أوجبت على الموظف إفشاء سر أو أسرار اكتسب معرفته أو معرفتها بحكم وظيفته أو أثنائها إذا كان ذلك يؤدي الى منع ارتكاب جريمة.
وكذلك نص قانون حماية المخبرين بوجوب إبلاغ الموظف عما يبلغ علمه من جرائم أو ما يشهده منها، لا سيما إذا تعلقت بجرائم الفساد والتنفع من الوظيفة العامَّة، باعتبار ذلك يشجعُ على تطبيق قوانين محاربة الفساد، إذ لا اعتبار لحرمة الفساد في هذا المقام أمام حماية المجتمع من خطر الجريمة).
وإنَّ التشريعات تجمع على توكيد وجوب كتمان الموظف للأسرار الوظيفيَّة وحرمة إفشائها لما لها من ضررٍ يصيب الدولة أو الأشخاص المعنيين بها، ويؤدي بأمنها وأمنهم الشخصي، ما يجعل الأسرار الوظيفيَّة أمانة في عنق الموظف الذي يحوزها أو يعرفها بحكم وظيفته أو أثنائها ليس له إفشاؤها للغير؛ لأن في الإفشاء خيانة للأمانة التي عُهِدتْ إليه، كما أن حفظه لها مظهرٌ من مظاهر أدائه لواجبات وظيفته بأمانه وتفانٍ 
وإخلاص.