النقد الثقافي ... بين المضمر والمعلن من اشتغالاته
ثقافة
2020/06/10
+A
-A
أ. د. علي حداد
تذهب معظم دراسات (النقد الثقافي) إلى القول بكونه ممارسة قرائية تجادل المستور المضمر وحده، بحثاً فيه عن النوايا التي ترى أنها تحمل دائماً مكنونها الذي يخفي مقاصد خطابه تحت طيات تعبيرية (جمالية) شاغلة (1)، وذلك ما لا نقول به هنا ـ قدر تعلق الأمر بالإبداع ـ فلعل في وجهة من التداول القرائي التي يعنّ لها أن تقاربه، ما يمكن أن يكون حصة للتفقه في فهم المعلن أيضاً، لأن باشتغالهما معاً، وفي الذات الانسانية ـ واعية لمقاصدها أو غير واعية، وعلى مستوى فرديتها أو جمعيتها ـ ما تنتج في مكتنفه الفعاليات الثقافية المختلفة، لاسيما في تجلياتها وكشوفاتها في ذات مبدعة، نماري كثيراً حين نجردها من تراكم متحققها الثقافي(المعرفي والجمالي) الخاص الذي انشدّت إليه وانشغلت به.
(1)
ومن هذه الرؤية ـ فعندنا ـ أن (تجيير) النقد الثقافي بحثاً عن أنساق مضمرة من دون سواها تحجيم لفعله وفاعليته، وتغييب لمتحقق كبير يندّ عن وعي به، وتيقن يجعله بمستوى عقائدي وممارسة اجتماعية لا تجافى، منتمية ـ في مشهدها المنجزـ إلى مكانها وقيمه وتأثيرات ظرفه البيئي وممارساته الاقتصادية وطبيعة العمل، وتواصلات التمثل الثقافي الذي يند هوية شاخصة للمكان والتكيف المعلن والمستتر معه . وفي جانب آخرـ يتأسس على هذه الرؤية ذاتهاـ فإن النقد الثقافي حين يوجه مشغلاته القرائية لمقاربة الابداع، فإنه لا يسعى إلى أن يغيب النقد الأدبي ليحل مكانه، ويدعي وراثته ـ بعد أن يعلن موته ـ كما تردد في بعض من دراسات نقدنا الثقافية ـ بل لعل الأقوم له أن يواجه النقد الأدبي ـ الذي رسخ حضوره وتكيفه في منهجيات مطّردة عبر مسيرته الحافلة بالإنجاز ـ بواحد من موقفين: فهو إما أن يقدم قراءة مجاورة له، بأدواته ووسائله في الحفر المعرفي التي ستصنع ـ جازمين ـ فضاءها القرائي الخاص، أو ـ إذا شئنا التوافر عليهما معاً ـ أن نضيف القراءة الثقافية لتكون واحداً من مستويات الجهد القرائي التي يقدمها الناقد الأدبي. وبذلك ينضوي النقد الثقافي تحت مظلته، ويتماهى معه، ليصبح واحداً من مآلات أفقه
القرائي.
(2)
يتفق المشتغلون في حقل النقد الثقافي على مسعى لاكتناه فاعلية قرائية منتجة لكشوفات مختلفة، وهم إذ يستعينون بكثير من أدوات النقد الأدبي ومصطلحاته، فإنهم يجترحون لها دلالات مضافة، وتوظيفا آخر لكشوفات أخرى، ربما حملت مساحة من المغايرة لما تواضع عليه لها في النقد الأدبي، وذلك كله في المسعى النبيل لإنتاج قرائي جديد ومختلف.
إن النقد الثقافي يشتغل على الإجابة عن سؤال الـ (لماذا)، بعد انشغالات الدرس النقدي الأدبي قبله بسؤالين تكيفت لهما تاريخيته ،هما سؤال الـ (من)المكرس جهده في القراءة التقليدية التي يكون مركزية أسئلتها (منتج النص) ومساحات حضوره فيه، وسؤال الـ (كيف) التي ظلت سادراً في مساعي تقصي شأن الانتاج وكيفياته (البنيوية) و(العلاماتية) وما تداوله من تناص وآفاق تشكيل جمالي (أسلوبي). وبقدر استيعاب سؤال الـ (لماذا) الذي يثيره النقد الثقافي لإجابات السؤالين السابقين، فإنه يشرع آفاقه نحو انهماكات قرائية في الانجاز الأدبي ذاته، والفاعليات المندسة فيه والمحايثة له التي انتج فيها النص لا بوصفه ممارسة فردية حسب، بل فاعلية تستجيب لمؤثرات حضورها المكتنف ثقافياً. وفي النقد الثقافي فإن النظر إلى العمل الأدبي يكون لا بعدّه (نصاً)، بل بوصفه (واقعة) تتحرك في أفق المكان والزمان، والتواصل مع الظرف البيئي والقيمي واشتراطاتهما، وما يبثانه من قيم في الذات المنتجة (المبدعة) عبر استجاباتها لوجود جمعي تنتمي إليه وتتواصل معه. ويجيء الانهماك القرائي ـ والحالة هذه ـ ذاهباً الى مقاصد النص ـ المعلنة والمخفية ــ عبر الكشف عن جوهره الدلالي الذي يعلن عنه خطابه. و(الخطاب) هنا هو الوجهة الفكرية (الايديولوجية) أو الرسالة التي يريد النص إيصالها، كونها جوهر مقاصده التي يكرس تكيفه الدلالي كله للبوح بها، فالخطاب ـ مستعيرين تعريف (ميشيل فوكو) له ـ بأنه "شبكة معقدة من العلاقات الاجتماعية والسياسية والثقافية التي تبرز فيها الكيفية التي ينتج فيها الكلام ". ويستجيب النقد الثقافي لتطلعات قرائية أكثر اتساعاًـ في موضوعاتها ووسائلها وأساليبها، تلك التي تتمثل الوجهة (الشعبية) أو(الجماهيرية) بتمثلات قيمها التي يراد تكريسها بإزاء النزعة (النخبوية)، لا بطبائعها في التخيّر الثقافي وأنساق الوعي التي يعلنها كل منهما، بل بالفعاليات التي يجري تخيرها وبطرائق التمثل وأساليب تشكيلها، والمقاصد المبتغاة منها. فحين تتحصن (النخبوية) بادعاءات استعلائها المعرفي، تشرع الفاعلية الجماهيرية أنساق تقبلها لمواجهة كل أنماط الفعل الإنساني المجسد، وهي تلقي بوقائعها من حولنا في كل حين وبوسائط أداء مختلفة ومثيرة . وتأسيساً على ذلك فإن وسائل النقد الثقافي في المعاينة والتشخيص هي (الأدوات الثقافية) التي تستمد من طبيعة (الواقعة) المستعادة، ومقاصد الوجهة القرائية، والمحمول المعرفي الذي تستدرجه ليعلن عن خبرتها وتقولاتها، وتلك في النقد الثقافي بدائل توسل قرائي عن (الأدوات اللغوية) التي كرسها النقد الأدبي مناطات اشتغاله وتفحصه النصي .
ولأن النقد الثقافي آليات اشتغال وسبل تفحص وليس (منطلقات نظرية) مغلقة على أفق منهجي بعينه، فإنه يؤسس لمسعاه القرائي عبر التوسل بالاشتغال الأكاديمي الذي (قنن) وجوده في علوم ومعارف وسبل تحصيل مدركة، فراح يستعيرها ويوظفها صانعاً منها معارفه ومنهجياته وآليات حفره. وهكذا، فإن الذين يمارسون النقد الثقافي يحملون هويات معرفية مختلفة واختصاصات متنوعة، وهذا متأت من أن النقد الثقافي فعالية وليس فرعاً معرفياً: " فعالية تستعين بالنظريات والمفاهيم والنظم المعرفية، لبلوغ ما تأنف المناهج الأدبية المحض من المساس به أو الخوض فيه ". لقد كانت المعاينة القرائية في النقد الأدبي، وحين تقارب وجود المبدع في نصه، فإنها تعد ذلك بوصفه نمطاً من التمثل الفردي للمحيط الخارجي بكل كشوفاته الاجتماعية والثقافية والمعرفية وسواها، فالمبدع وانجازه ـ عندها ـ إنما يستجيبان لمؤثرات الخارج استجابة ذاتية، في حين يأتي النقد الثقافي ليغيّر مسار التواصل، فيصبح الخارج هو الذي يحقق الفاعلية والحضور والتأثير الثقافي الذي يتأطر فيه الوجود الذاتي للأفراد مع محيطهم الاجتماعي وكشوفات فعله وتأثيره، لا برغبة الاستجابة المتخيرة، بل بقوة الفعل الجمعي ومساحة الاستجابة الملزمة له، وهو ما أشير إليه بوصفه الملاذ الثقافي أو ( الهابتوس ـ habitus ( الذي عرفه مجترحه المفكر الفرنسي (بيير بوروديو) بكونه مجموعة من استعدادات وصور من السلوك، يكتسبها الأفراد من خلال التفاعل في المجتمع، ويعكس المفهوم مختلف الأوضاع التي يشغلها الناس في مجتمعهم، وهو نظام من الخطط الواعية وغير الواعية في التفكير والإدراك والاستعدادات التي تعمل كوسيط بين البنى (الموضوعية) والممارسة ... ويفسر عملية إعادة انتاج الهيمنة الاجتماعية والثقافية "، ليستحيل عبر ذلك إلى" مجموعة من ميول الأداء والتفكير والإدراك والشعور بطرائق دون غيرها، وبأساليب دارجة من الكلام والحركة، كما أنها تأتي بأنماط لا واعية من معرفة العالم وتكوينه وتصوره، وكل هذا لا يتحقق من خلال ما نألفه من دراية وتعلم وعناية واعية، وإنما من خلال الاختلاط الاجتماعي الأساس والعلاقات المتوارثة التي تؤول جميعاً إلى توليد العادات والتقاليد والشفرات الاجتماعية، أو العلامات التي تأخذ سبيلها بين الناس". ومن خلاله تحضر الفاعلية المجتمعية عن طريق سيرورة التربية والتنشئة الاجتماعية والتعليم والترويض، وكل محددات السلوك والتفكير والاختيار، وبذلك فإنه يصبح منطلقاً إلى التقريب بين الحتمية الاجتماعية من جهة والفردانية من جهة أخرى، استنطاقاً لما هو (خارجي/ داخلي)، كون أن البنيتين الداخلية (الذاتية) والخارجية (المجتمعية) هما صورتان لحقيقة واحدة، للتاريخ المشترك ، ذلك التاريخ المنقوش في الذات وفي الأشياء. ولعلنا ـ ومن منطلق التمسك بما قرّ للنقد الثقافي عندنا من منطلقات مثاقفة ونهج من الاشتعال يدعو إليه ـ نستعيد ما قلناه بدءاً عن إمكانية تطويع مقارباته في بيان ما تعلنه الذات المبدعة ـ وهي تكتب وعيها في النص ـ وما تبثه المؤسسات القيمية الجمعية التي يضمرها النص ذاته، وذلك ما يستلزم أكثر من قراءة لاحقة .