عبد القادر الرسام

ثقافة 2020/06/14
...

جمال العتابي
 

ظلّ عبد القادر الرسام يرسم في حضرة الطبيعة مستجيباً لندائها الخفي، من دون أن تغادر حدود اسلوبيته الفطرية الجميلة، كما لو كان يؤدي من خلال ذلك، واجب الامتثال لعشقه البصري الذي كان يعالج المشاهد الخلوية وظواهر المدن القديمة.

كل ما أنتجه الرسام يمثل حقيقة زمنه، مارس خلاله مهنة العيش بكل تناقضاتها، وطبيعتها المتصادمة، عاشقاً لضفاف دجلة والفرات، والقوارب، والبساتين، والحقول والرعاة، والمواقع الأثرية، هذه العناوين تؤلف موضوعه الفني، الوجد بالحياة عبر العمل الفني وتقوده الى عالم أرحب.
ولد عبد القادر الرسام في مدينة قلعة صالح (العمارة) عام 1887، درس الفن الى جانب العلوم العسكرية في المدرسة الحربية بالعاصمة العثمانية اسطنبول، تمثلت بداياته بلوحات ملونة وتخطيطات للأغراض العسكرية، تنسجم والأسلوب الأكاديمي الأوروبي الصارم، تتلمذ على يد عدد من الرسامين المقيمين في اسطنبول، وكان أكثر تأثراً بالاسلوب الفرنسي في الرسم، وأظهر الرسام في تلك الفترة مهارة عالية في الرسم بالزيت، مع دقة متناهية في التفاصيل.
باحتلال القوات الانكليزية لقضاء قلعة صالح اختفى الملازم عبد القادر، ثم فتح محلاً لرسم الصور الشخصية عام 1919، وتم تعيينه معلماً في القضاء، وظل فيه حتى عام 1939، وانتقل إلى بغداد بعد أن طلب الإحالة على التقاعد، وفيها فتح محلاً لرسم الصور الشخصية، والمشاهد الطبيعية التي نالت استحسان السياح الأجانب، وصار الإقبال عليه شديداً، زينت رسوماته جدران أول صالة سينما عراقية في بغداد، واشتغل فيها رساماً لعمل المانشيتات للأفلام السينمائية.
أسس الرسام مع الجيل الأول للفنانين العراقيين جمعية أصدقاء الفن، وعرض أعماله في أول معرض لها عام 1941، وشارك في بقية معارضها، أهم سمات ذلك الجيل من الرواد رغبتهم في تحفيز التذوق الفني للاعمال الفنية وسط الجمهور العراقي.
أنجز الرسام لوحاته بواقعية صارمة ملتقطاً مشاهد حية من الريف العراقي، مستخدماً الألوان المشرقة بأفضل ميزاتها، وعرف باتقانه لرسم المنظور، احد أهم رسوماته كان (بورتريت) لمحمد درويش الآلوسي أنجزه عام 1924، وإيوان المدائن في سلمان باك، ومن أجمل أعماله منظر خلوي لنهر دجلة، فيه يتحول دجلة الى نافذة يطل بها الفنان على عالم الطبيعة، وهي ترفل بجمالها الفطري. ولوحة أخرى(بغداد بعد الغرق)، نشعر أمام هذه الأعمال بنوع من الصفاء والروحي 
إنَّ الانتقال من عصر لآخر أحدث تحولا كبيرا في عالم الفن، وغير موازينه ، لكن كما يبدو لم يكن كافيا لتغيير مسار أو رؤية الفنان عبد القادر الرسام، و زملائه من رسامي تلك الفترة الزمنية، فظل مفتوناً بسحر عالمه، أسير هوى مشاهده العراقية، محجوباً عن تلك التيارات التي كادت أن تقوّض عمارة الفن وتقاليده، مقصياً عن الإصغاء لتلك الحوارات التي قامت وراء حدود الدولة العثمانية، وهكذا استمر عبد القادر يرسم في حضرة الطبيعة، دونما أية محاولة لإعادة أوصالها، التي كان الفنان في الغرب مشغولاً بتفكيكها، وتحليل ألوانها، واستقصاء أبعادها، وفي ضوء ذلك، يمكن القول ان عبد القادر كان رسام ضمير لمرحلة زمنية، مازلنا نستمتع بأجوائها ونتلمس عفويتها، ونستعيد ذكرياتها، بكل ما كانت تتمتع به من براءة وبساطة، ولعل هذا الاختيار وحده كان يمثل عهداً لم يمنحه القدرة على مغادرة يقينياته، واستمر حتى مطلع الخمسينيات، شيخاً يحمل آلامه وهو يعيش كفاف يومه من راتب تقاعدي شحيح لا ينهض بأعباء شيخوخته، وأقصي حتى عن أولئك القلة القليلة من الأصفياء الذين ظلوا يواصلون الوفاء لشخصه وفنه، فرحل الى ارض الصمت عام 1952 خالداً بما رسم وأحيا على القماش من صور ومشاهد، حياً بما أفاض من حب للعراق، طبيعة ومغاني وذكريات.
شكلت الطبيعة العنصر الأساس في أعمال عبد القادر، وعلاقته بها علاقة شعورية مبنية على الإعجاب الذي يحاول أن يتقاسمه مع متلقي اللوحة، إلا ان نقل المشهد الطبيعي الى اللوحة، هو دون شك عمل درامي مثير، غير انه في الوقت ذاته لا يكفي لتحقيق عمل فني إبداعي ممزوج بحرارةالإنسان وقلقه، ولعل ذلك يعود الى أن رؤية الفنان تصبح غير قادرة على البوح الواعي، إذا ما اتصلت بالداخل واستدعت الكلمات والأصوات للتعبير عن موجاته المنداحة من الأعماق، فالطبيعة الصامتة في أعمال الرسام، تبدو طبيعة ناطقة حين تحيل إلى فضاء ذكريات، الصفة الواقعية للوحاته تجعل المفردات التي يرسمها تقدم نفسها بنفسها، لكن ضمن خصوصيات وبصمة الفنان، باعتباره مبدعاً لها، يقول الفنان شاكر حسن آل سعيد: لن أكون مبالغاً إذا قرنت رؤية عبد القادر برؤية الرسام الفرنسي بول سيزان، فعبد القادر على الرغم من اسلوبه على العموم يبدو على شيء من المسحة البدائية(الفطرية)، فانه كان يحوّر العالم الذي يرسمه ليبدو عالماً من البراءة والنبل والسكون المطبق، وكأنه يرسم بروحية نحات سومري كالذي نحت لنا تمثال( غوديا)، أو(دودو).
انه إذاً في رؤيته كان يعبر عن صدق العالم المرئي، واعتاد أن يرسم وفق مبدأ المحاكاة، ولكن ضمن المنهج الذي يعتمد فيه على جمع التفاصيل من عدة مواضيع، والواقع ان موقف الرسام الفني رغم قلة المصادر التي تستطيع ان تتوغل اكثر في تجربته الفنية، فانه يبدو قد كرّس جهده كليا للرسم، غير ملتزم إلا بصوفيته
الدنيويَّة.