قراءة في كتاب الممانعة لأرنستو ساباتو

ثقافة 2020/06/16
...

عفاف مطر
 
 
 
كتاب (الممانعة) لأرنستو ساباتو هو آخر كتاب قدمه قبل وفاته، وعلى الرغم من شهرة ساباتو ومكانته في الأدب العالمي، إلا أنَّ هذا الكتاب يندرجُ ضمن الكتابة التأمليَّة الفلسفيَّة والنقديَّة. الكتاب يحوي خمس رسائل وخاتمة لا تقل أهمية عن الرسائل. قد تبدو موضوعات الرسائل ليست بجديدة وتم طرحها من قبل، لكن أن يخصص ساباتو كتاباً خاصاً لها، قد يجعلنا نعيد التفكير بهذه الموضوعات مرة أخرى.
منْ يقرأ الكتاب سيلاحظ أنَّ مدينة بوينس ايرس الأرجنتينية حاضرة في ذهن ساباتو الى حدٍ كبير، وجعل منها مثالاً يقيس عليه كيف كان العالم وكيف صار. وقد خط كتابه هذا وهو يستشعر الموت قريباً منه وقدم اعترافات لم يبح بها من قبل، ليس لأنه كان يخشى أمراً ما، بل لأنه لم يدركها إلا في لحظاته الأخيرة التي عبر عنها بأنها من أكثر اللحظات الرائعة في تاريخه، وهي على عكس ما كان يتوقعها، إذ تبدد خوفه من الموت، وصارت ذكرياته التي راودته أثناء كتابته لخاتمة هذا الكتاب والناس الذين ساعدوه في محطات حياته المختلفة، وقراؤه ومريدوه، أهم العوامل التي تساعده في لقاء الموت قرير 
العين.
الرسالة الأولى ألقى ساباتو الضوء على خطر التلفزيون، ووضع على عاتقه المسؤوليَّة الأولى والكبرى في التباعد الاجتماعي، والتباعد الاجتماعي في نظره ليس أحد أمراض العصر فحسب، بل المسبب الرئيس في انعدام الحوار، وانعدام الحوار هذا هو الذي أدى بدوره الى عدم تقبل الآخر، وكل هذه مجتمعة كانت وما زالت من أهم أسباب النزاعات والحروب التي تزايدت في القرن العشرين والحادي والعشرين؛ حتى انه ذهب في رسالته الخامسة من الكتاب، أنَّ الحروب الكلاسيكية القديمة مثل الرومانية كانت الجيوش تلجأ الى قطع الطرقات.
أما الآن فعلى البشرية أنْ تستعد الى قطع الكابيلات في الحروب المستقبليَّة. وذهب في تصوير خطر التلفزيون أنه جعل من الرجل أشبه بالحشرة الكافكاوية المقرفة التي نذرت نفسها لمزيدٍ من الإنتاج لغرض اللحاق بشراء السلع الاستهلاكية التي يعرضها التلفزيون، والتي تكلف عملية تصنيعها نفايات أكبر من قدرة الأرض على استيعابها.
كما قارن بين عصر الصيد وجني الثمار، وعصر الديمقراطيات، وجزم أنَّ الحرية التي كان متاحة ويتمتع بها الانسان في العصر الأول لهي أكبر وأصدق من العصر الثاني. ودرج ساباتو على أهمية المقاهي، وهو المولع بها، إذ ينظر إليها كمكان لتلاقي البشر، ومن أهم الأماكن لمناقشة الأفكار حتى لو شاب النقاش بعض الصراخ، إلا انه يبقى أفضل من القطيعة، لكن ما آلمه بشكل كبير، أنَّ جميع المقاهي التي كان يرتادها ليلتقي بأصدقائه صارت لا تخلو جدرانها من شاشة أو أكثر، وأنَّ صوت التلفزيون أعلى من صوت زبائن المقهى.
الرسالة الثانية تحدث عن المثل القديمة، وشبهها بمباني بوينس ايرس العتيقة، وساحاتها الواسعة التي كانت تعمر بالاحتفالات الدينية والمجتمعية وهي تعج بالنساء والرجال والأطفال، وجاءت البنايات العمودية لتحل محلها، إذ يعد ساباتو أنَّ نشوء المجتمعات المتقدمة جاءت على خلفية ازدراء القيم السامية. القيم التي يتحدث عنها ساباتو هي الشرف والنزاهة والصدق والتضحية التي أولاها الكثير من الصفحات والاهتمام، وختمها بالخجل، إذ يرى أنَّ الإنسان الآن لم يعد يخجل، فقد يكون الرجل مرتشياً ومعروفاً بالرشوة، ثم يظهره التلفزيون على شاشاته كرجل أعمال أو سياسة يتحدث ويمزح مع المذيع ويصفق له الجمهور! والناس تتقبل ذلك بصورة طبيعية جداً، فمن غير التلفزيون أدى الى انهاء تلك القيم والمثل؟
وهاجم ساباتو العولمة ومنظريها، ويقيس ذلك على بني جلدته، إذ يرى أن الكثير من أبناء بوينس ايريس يخجلون من تقاليد بلدهم، ذلك أن العالم مدفوع بالرغبة في استنساخ الكائن الانساني النموذج، قصد التحكم فيه، والسيطرة عليه بكيفية أفضل، والعالم يسير سيراً حثيثاً في طريق جعل الشعوب والبلاد تفقد اصالتها، وغنى أختلافها الزاخر، وهو بذلك يرى أن الاشياء والبلاد والأماكن تفقد قداستها شيئاً فشيئاً. الرسالة الثالثة تحدث عن التربية والتعليم، وهو يرى أن أطفال اليوم يقضون أوقاتاً طويلة أمام التلفزيون أو في الألعاب الالكترونية التي تحضًّ على العنف وتمرره الى أذهان الأطفال وكأنه أمر طبيعي، أو أمر لا بدّ منه، ولأن الأعلام ليس مستقلا عن السلطة في أي دولة، فبالتالي لا يمكن أن ينشأ أطفال اليوم أحراراً بالمعنى الحقيقي، وكلما قضو ساعات أطول أمام التلفزيون، كلما صارو عبيداً ومطواعين أكثر.
وذكر ساباتو غاندي وذكائه في اهتمامه بالتربية الروحية، على عكس مدارس اليوم التي تربي التلاميذ على التنافس، الأمر الذي يعزز النزعة الفردانية، هذه النزعة التي ساقت العالم الى ما هو عليه اليوم، وحولت المجتمع الانساني الى مجتمع غاب ومتوحش. الرسالة الرابعة حاول ساباتو لفت انتباه العالم المبهور بالتكنولوجيا والاتصالات والاعلام، أن كل تلك الانجازات سُخِرت للغزو، إذ وضعت الدول المستعمرة في خضّم صراعها الدامي هدفها الأعلى وهو محو القيم والعادات والتقاليد الأصيلة، وتدنيس قيم عُمِّرت آلاف 
السنين. 
وكل ذلك بموافقة الشعوب وأيضاً كل ذلك عبر التلفزيون، الذي يمرر رسائل أيدولوجية أن تلك الحروب مهمة وضرورية لتحقيق نموذج (ما ينبغي عليه أن تكون الحياة) وقد تحقق هذا الهدف، نتيجة العجز والخوف من أن يعيش الفرد خارج هذا النموذج. وهو بذلك - اعني الانسان- ينسلخ من دون وعي حقيقي من انسانيته، فيرى الحروب والفساد في كل مكان، وكأنه غير ذي صلة بما يجري، فأصبحت البشرية كلها تعمل لفائدة السلطة. الرسالة الخامسة عنون ساباتو هذه الرسالة بـ "الممانعة" وذكر أهم القيم التي على البشرية أن تعيد التفكير بها للخروج من النفق الذي دخلت فيه، لخصها بالممانعة أي المقاومة، التي من الممكن أن تنجح عبر قيم عليا مثل: عدم تبخيس الذات، الشعور بالمسؤولية، الحرية،.. التضحية.. وعدم اليأس، إذ يرى أن الكائن الانساني ليعرف كيف يفتح وسط الحواجز والعقبات سبلاً جديدة لتدفق الحياة، لأن مجرد صدعٍ بسيط هو 
صدعٌ كافٍ لتتولد منه الحياة من جديد.