الحماية الجنائية للمُجنى عليهم بجرائم الاعتداء الجنسي

استراحة 2020/06/17
...

 
القاضي ناصر عمران الموسوي
 
ثمة تماهي وتواشج كبير بين العدالة كمنتج اخلاقي وواجب صارم لا يمكن التغاضي عنه وبين الحقوق الشخصية البحتة التي تشكل علامة تعريف كبيرة لأنا الذات البشرية لذلك لا غرابة ان يأتي تجريم اعلان اسماء وصور المجنى عليهم بجرائم الاعتداء الجنسي كالاغتصاب والاعتداء على العرض من قبل المشرع العراق وتحديدا في الباب الرابع من قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969 المعدل باعتبارها من (الجرائم المخلة بسير العدالة) كعنوان عام وفي الفصل الاول تحت عنوان (المساس بسير القضاء) إذ إنَّ العلانية في نشر الاسماء والصور وواقعة الاعتداء على المجنى عليهم تشكل جريمة مستقلة عن جريمة الاعتداء الجنسي وهذه الجريمة تشكل ثنائية الاعتداء اولا : المساس بسير العمل القضائي والذي يترتب عليه الاخلال بمجريات تحقيق العدالة والذي يهدف اليه النص العقابي وهو تحقيق الردع المجتمعي باحترام مجريات التحقيق والعمل القضائي و ازالة اثار الاعتداء والمتمثل بالمحافظة قدر الامكان على تحجيم السلوك المجرم (اثار الجريمة) سواء اكان الضحية قد فارق الحياة او على قيدها ،وهي مهمة انسانية اخلاقية قبل ان تكون الزام قانوني ورؤية موضوعية لفلسفة العقاب ، وبالتأكيد ان الاعتبارات المعنوية السمعة والشرف والكرامة هي محل الانتهاك المرتبطة بشكل غير قابل للتجزئة بالانتهاك المادي الذي شكل جريمة الاعتداء على جسم المجنى عليهم فضلا عن المساس بسير التحقيق القضائي والاخلال بسير العدالة ،لقد أسهم التطور التقني لوسائل الاتصالات ومواقع التواصل الاجتماعي - مع الأسف - في انتشار جريمة الاعلان عن اسماء وصور المجنى عليهم وتصوير واقعة الاعتداء بشكل علني اساء الى المجنى عليهم ومنح الاعتداء الجنسي الذي اقدم عليه الجاني مساحة انتشار واسعة لم يقصدها او قصدها الجاني ، وغالبا ما يسعى هؤلاء الاشخاص او المؤسسات الاعلامية ومواقع التواصل الاجتماعي الذين يقومون بالنشر في الحصول على مكاسب شخصية كزيادة عدد المشاهدات وتحقيق الشهرة على حساب المجنى عليهم لذلك جاء نص المادة (236) من قانون العقوبات العراقي لتجريم واقعة النشر وحدد عقابا لها إذ نصت المادة (يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على سنتين او بالغرامة او بإحدى هاتين العقوبتين من نشر بإحدى طريق العلانية : 5 -  نشر اسماء وصور المجنى عليهم في جرائم الاغتصاب والاعتداء على العرض...) والعلانية خلاف السر ولغويا تعني اظهار الشيء وقد نصت المادة (19 /3 ) العلانية: تعد وسائل للعلانية: أ – الاعمال أو الاشارات أو الحركات إذا حصلت في طريق عام أو في محفل عام أو مكان مباح أو مطروق أو معرض لأنظار الجمهور أو إذا حصلت بحيث يستطيع رؤيتها من كان في مثل ذلك المكان أو إذا نقلت إليه بطريقة من الطرق الآلية. ب – القول أو الصياح حصل الجهر به أو ترديده في مكان مما ذكر حصل الجهر به أو أذيع بطريقة من الطرق الآلية وغيرها بحيث يسمعه من لا دخل له في استخدامه. جـ – الصحافة والمطبوعات الأخرى وغيرها من وسائل الدعاية و النشر. د – الكتابة والرسوم والصور والشارات والأفلام ونحوها عرضت في مكان مما ذكر أو إذا وزعت أو بيعت إلى أكثر من شخص أو عرضت للبيع في أي مكان ).
 ولم يرد في قانون العقوبات تعريفا ً للعلانية بل جاء بتحديد الوسائل العلانية للتعريف بها ، ان اعلان اسماء المجنى عليهم او نشر الواقعة بجرائم الاعتداء الجنسي والذي يكون العرض والشرف محل الاعتبار يشكل السلوك المادي للجريمة باعتبارها مخالفة قانونية ومساسا بسير التحقيق اضافة الى مخالفة الضمانات القانونية للضحايا ، ويعرّف الاعتداء الجنسي بشكل عام بأنه اتصال جنسي غير مرغوب فيه، تعرّفه منظمة (راينن ) : على أنه «اتصال جنسي غير مرغوب فيه والذي قد يصل إلى الشروع في الاغتصاب أو الاغتصاب الفعلي وهذا يتضمن اللمس الجنسي والتحسس» والاعتداء الجنسي له العديد من الأشكال منها ما يتضمن الهجوم مثل الاغتصاب أو محاولات الاغتصاب أو أي شكل من أشكال الاتصال الجنسي غير المرغوب أو التهديد. 
وغالبا ما يحدث الاعتداء الجنسي عندما يلمس شخص أي جزء من جسم شخص آخر بطريقة جنسية -حتى ولو كان من خلال الملابس- بدون إذن ذلك الشخص. ونشر هذه الواقعة واسماء المجنى عليهم يجعل الضحايا بعد الاعتداء محلا للمعاملة السيئة بدءا بالوصف بالعُهر والعار والذي قد يصل إلى نشر الرسائل السيئة عن الشخص باستخدام الإنترنت، كما قد تصبح مصداقيتهم محل شك. وقد تتخذ بعض الإجراءات لحماية الضحايا الذين ستتعرض حياتهم الى الخطر بفعل مفاهيم عشائرية او قبلية ترى في الضحية عارا يجب التخلص منه ،واذا كان السلوك المادي يتمثل بفعل الاعلان ونشر اسماء المجنى عليهم بجرائم الاغتصاب والاعتداء على العرض فان الركن المعنوي يتمثل بالقصد الجرمي وهو الفعل الارادي المقصود بالنشر والذي ادى الى انتهاك لمجريات التحقيق القضائي وسير العدالة ، والحقيقة اننا وبفعل التقدم التقني واستخدام اجهزة الاتصالات الحديثة ومواقع التواصل الاجتماعي بحاجة الى تشريع قانون يمنح ضحايا الاعتداء الجنسي ضمانات قانونية وحماية جنائية تعالج حالة الضحايا ما بعد وقوع الجريمة وما نراه من وقائع ونشر على مواقع التواصل الاجتماعي وعلى شاشات الفضائيات من نشر لوقائع جرائم الاعتداء الجنسي واسماء الضحايا ونشر واقعة الاعتداء كما صورها الجناة هو امر اقسى واكثر ايلاما على الضحايا - ربما - من فعل الاعتداء ذاته وفي الوقت الذي نطالب فيه بتشريع للحماية القانونية والجنائية للضحايا فان على مفوضية حقوق الانسان دورا كبيرا في تشخيص الانتهاكات العلنية للحقوق الانسان اضافة الى دور الادعاء العام في تحريك الشكاوى الجزائية كون ذلك يشكل اعتداء ماسا بسير التحقيق ومخلا بسير العدالة باعتبارها من جرائم الحق العام صحيح ان اظهار الجرائم التي تحمل بطياتها اعتداء على المتبنيات العقائدية والعادات والتقاليد الاجتماعية واعتبارها من جرائم الرأي العام الذي لا بدَّ أنْ يكون للمجتمع ومؤسساته دور كبير برد فعل يتناسب مع واقعة الجريمة ومن اهم ردود الافعال نقل الجريمة من واقعها الجنائي ومجرياتها القضائية الى الرأي العام وذلك لا يكون الا عبر العلانية والنشر الا ان ذلك لا بدَّ أنْ يكون متماهياً مع الرؤية القانونية وضمن محدداتها القضائية بحيث يتحقق الانسجام الاجتماعي والقانوني بردة الفعل وهو الردع العام للحيلولة دون وقوع الفعل مستقبلاً من جانب، وحماية للمجنى عليهم، من جانب آخر.