خروج الهامش على المركز
ثقافة
2020/06/18
+A
-A
د. فاضل التميمي
يحيلُ لسان العرب الجوق على كلّ خليط من الرعاء أمرهم واحد، والجوق القطيع من الرعاء، وهو: الجماعة من الناس، ويبدو أنَّ تطوّراً دلاليّاً قد لحق اللفظ في العصر الحديث فأصبح يطلق على مجموعة من عازفي الأدوات الموسيقيّة الهوائيّة ذات الألحان العسكريّة المعروفة بموسيقى القِرب، فدلالة عنوان المجموعة إذا يمكن تفكيك بنيته على وفق ثنائيّة المركز: الهامش التي كانت من نتاج الدراسات الثقافية والنقد الثقافي، وصار الخوض فيها الآن جزءاً من خطابات ما بعد الكولونياليّة، على فرض أنّ الجوق هو المركز بصوتيّته المناسباتيّة التي تعلن عن قطبيّة جامعة لمختلف التصوّرات، وما يقع خارج تشكيلته هو الهامش الذي يدور حول المركز بوصفه نتاج تمرد، أو عزوفاً، أو تابعاً بريئاً، على أنّ هدفه المضمر تقويض سلطة المركز، والتشفي بما سيؤول المصير إليه، فهو – الهامش - والحال هذه سلبٌ قائمٌ على تفكيك أخلاقيات المركز، وعدم التصالح مع آليات حضوره تلك التي احتكرت ممارسات القوّة في التشكيل التصويتي لموسيقى القِرب وغيرها، وعملت على إقصاء الزوائد، والتهميشات الناشزة عن خروجها المتعمد عن سلطة
التمكين.
يتعمّد الشاعر (أمير الحلاج) الخروج عن سلطة الجوق، والعيش بعيداً عن العزف الواحد المتكرّر الذي ينتمي إلى سلالم مرقونة تأبى الخروج على درجات تنغيمها معتقداً أنَّ العزف الانفرادي خارج الجوق يحيل على تمكّن، واجتهاد في دوزنة الآلات وضبط تصويتها:
(ربما خارج الجوق أعزف../ حيث انفرادي وقوفاً/ له نسقٌ/ يمتلك البصمةَ المشرقة/ وله بابُ رؤيا / تطل إلى الصبح) ص5
لا أشكُّ أبداً في أنّ هذا الذي قاله الشاعر في استهلال قصائد المجموعة (بيانُ) شعري، ومفتاح دلالة الشاعر، فهو بنسقه المعلن كشفٌ عن مضمرات الشاعر، وإحالاته القوليّة التي ملّت الوقوف مع حالة الجوق، والترديد الببغاوي لمجمل معزوفاته تلك التي حفظها الجميع من قرون، وهذا يعطي دليلا أكيدا على قوّة المرجعيّة الثقافيّة التي غذت نصوصه الشعريّة، والايديلوجيّة القائمة على مفارقة الجمع في سكونه المطبق وترديده الببغاوي المألوف طمعا في المغايرة، وتحقيق البصمة التي يشرق من بين خطوطها الجديد.
لقد استفاق الشاعر من غفوة الحياة وهو يرى الصوت النشاز متمكنا في توجيه دفة الجوق وسلطة الحياة:
(ومن تحتي يتألق التاريخ.
ويغرد النشاز، كابحا عذب التطلع) ص79، ففي هذين السطرين يبرز حاضر النصّ في وظيفتي التغريد، والكبح منسوبتين إلى التأريخ مجازا لكنهما متجذران في وعي مركزيّ جمعيّ؛ بمعنى أنّهما من نتاج موت مراحل التأريخ ليكون الهامش والتهميش في أعتى درجات السلب الاجتماعي، بوقوعهما تحت سلطة القمع الذي يمارس تنميطا بحق الذات المتطلعة فيسلبها حقها في الحياة، والعزف على إيقاعها المتكامل، ففي سلطة المركز، وفي ظل أجوائها ليس للشاعر إلا أن يكون بوقا، وأن يرى
نفسه:
(كقلم في المبراة../ يتمادى قطر أسطوانة شكله) ص10، هنا نتلمس فعل التهميش بقوّة صناعة المركز صائغ التسلط والتعنيف والإكراه، والفقر، والعوز الماديّ، والنفسيّ الذي يأخذ بتلابيب الروح إلى العزلة القاتلة ويقينا -والقول للشاعر- أن:(ما تلده الحوافر، والسرفات/ تركةٌ كمحيط الدائرة) ص19، وما محيط الدائرة الذي كان محط تشبيه الشاعر سوى الشكل الهندسي الذي ارتبط بأجمل النعوت: القمر مثلا، وقرص الشمس، واستدارة الوجه، ولكنه من جهة أخرى صار قرين الهامش لبعده عن المركز، وهذه مفارقة أخرى ينتجها الشعر، وهو يتأوّل وجود المركز والهامش وما ينتج عنهما من تناحر، وثقافة مضادة تمكّن الشاعر من توجيه عناية المتلقي نحوها.
وللمتلقي أن يقرأ وقد بلغ التهميش حدّا لا يطاق:
(لم يبق فيّ/ سوى ما تستوعبه حفرة الطمر) ص51، هنا تمكّن الشاعر المهمّش من رؤية ذاته وقد صُنع لها موقعٌ في أقاصي السلم الحائل إلى الموت، فالنص يكشف عن مرجعيّة عدميّة يعيش الكائن الحياتي في قمّة عزلتها، أما كيف تشكّلت تلك الرؤية فلعلّ الهامش الذي هي فيه قد أحاطها بالقتامة القائمة على الاندحار انتصارا لوجود المركز، ففي ظلّ الحياة المّهمشة ليس للشاعر إلا أن يرى نفسه في قرارة نفسه (راعيا)، وقد عُطّل من وظيفة الرعي، وصار الاندحار النفسيّ شكلا متقدّما لصورته المهمّشة:
(هذا الراعي / المسلح بالعصا لم يستخدمها للتهديد/ ولم يضرب خروفا..) ص13، النص بمجمله كناية ثقافيّة بما امتلك من اقتران دلاليّ أحد طرفيه حاضر في النصّ وهو قريب لا شأن له دلاليّا، والآخر عميقٌ مضمرٌ بعيد لا شعوريّ ليس موجودا على سطح النص، بل حاضر في عدّة تأويلات صنعت منه نسقا موغلا في الخطاب يتصل بما آل إليه وجود الهامش، وهو الأهم دلاليّا؛ بمعنى أنّه عاطل عن فعل الضرب ، فلك أن تتصوّر راعيا لا يهشّ على غنمه، مع أنّه يمتلك العصا التي من مهماتها تهديد ماشيته، عصا معطلة بيد أصابع لا أرادة لها تنتظر من اليد ان تكون، وأن تخرج على سلطة تهميشها.
يقينا أنّ فضاء التهميش لا يطاق فهو أسوأ صناعة بشريّة يتعاور على وجودها الجهل ، والظلم ، والسياسة، وأن الشاعر الذي عاش تحت نيرها لا بد له ان يستفيق، وأن تقترن فكرة التهميش عنده بضرورة الخروج على المركز، والتمرد عليه، وخرق نسقه إيذانا بفضّ حجب المسكوت عنه ، وإعلان الصرخة:
(يحمل في جوهره انتظارَ الوقت../ كالممحاة يبدأ في الناتئ من الحدود/ فالورقة الجديدة / ملّت دكّة الصبر/ إذ من بعد التخبط / لا بد من صرخة طافرة) ص25، عن أي صرخة يتحدّث نصّ الشاعر؟، يحيل نصّ الطفرة على مضمر الانعتاق، وضرورات العبور الناجز نحو تحقيق حلم الذات بتقويض مسلمات الارتهان، وتحقيق الحلم إذ كلّ ذات تهدف إلى تأكيد وجودها بعيدا عن العزل، وتعمية النظر.
وكان الشاعر، وهو يعيش حالة الجوق مسكونا بالتمرد حتى إذا ما حانت لحظ الخروج من مركز الجوق
أعلن:
(حلِّقْ / لا لرغبتك التي تشحن قوَّتها/ أن تقوم حاثّا الفعلَ / فتدفع فيك الشروعَ/ والتطلّعَ) ص6، فالنص بوضوحه الشعري أحال على مضمر الثورة، وقبلها التحليق في فضاءات المغايرة تلك التي تقع خارج المسافة التي تتحكم في خطوات الجوق، وأناشيده المكرورة.... هل كان الشاعر في دعوته إلى التحليق معبّرا عن أيديولوجيا خاصّة به؟
كان بلا شك منتميا إلى روح التجاوز والجماعة ، وهو يرنو إلى مستقبل الحياة بلا جوقات مستنسخة ، بلا مراكز تشبه الأسوار:
(الأسوار العقيمة/ كسوار المعصم / منشغلة بالدائرة المحيطة) ص8. تلك إذا مهمّة المركز الانشغال بمحيط الدائرة، وكبح جماح الهامش، لكنّ الهامش لا يمكن إلا أن يحلم بفرصة الخروج عن المركز، وبناء أنساقه بعيدا عن النظر السقيم، فليس له -الهامش- إلا أن يكون حرّا داعيا إلى التحرّر من قبضة الوهم:
(وترعرع في قفص من هواء../ وطار بحلمين من وخزة وانكسار/ إلى لوحة ضاق منها الجدار) ص18، ترعرعُ الشاعر في قفص يحيل على سجن كنائيّ سابق مرتهن بوجود الهامش، في إشارة إلى ما كان من تعسف مقصود مورس بحق الحياة، لكنّه ترعرعٌ قاد إلى فعل التغاير والطيران بحلمين لا حلم واحد أعني الثورة وتجاوز التهميش.
وللشاعر وهو في حالة النهوض أن يعلّم نفسه:
(فاحزم أمرك للشروع/ كي لا يمسك كفيك اللجام) ص58، فهو في نصّه السابق أنجز ميثاق عمله الأكبر في الحياة، وصولا إلى الشروع في المهمة الحياتيّة التي لا غنى عن ممارستها، والنهوض من خلالها.
لقد شاع مفهوم المركز والهامش في الشعر منذ قرون بعيدة، وإن بقي طيّ الكتمان نقديّا، فالمركز عند الشعراء العرب القدماء ارتبط بالسلطة، وتلقي الشعر، بينما الهامش عند آخرين أخذ نحو الصعلكة وأشباهها، والإقصاء البعيد، حتى إذا طلّ العصر الحديث تقدم الهامش على المركز بعد أنْ فعل الفكر الثقافي، والسياسي الحديث فعله في شحذ العقل، وتنمية الحس الجمالي في هوامش الحياة، فقد أدّى فكر ما بعد الحداثة إلى تفكيك المركزيّات ونقدها، والتشكيك بمسلمات العصور
السابقة.