حصل ذلك في اجتماع غير رسمي، حين عرضنا في أروقة «الصباح» واقعة بعض طلبة جامعة الأنبار، ورفعهم صورة صدام، خاصة وان هذه الواقعة لم تكن الوحيدة ولن تكون الأخيرة.
مرّ بعض الزملاء على مشروع الذاكرة، الذي تقوم نظريته باختصار على التعريف المتواصل بجرائم النظام الساقط، برمزه وحزبه وسلطته وقمعه لكي لا ننسى الماضي حماية للحاضر. مشروع الذاكرة مهم لاسيّما إذا قام على التدوين والتوثيق لملايين المظالم التي مرّ بها العراقيون. لكن المشكلة فيه مع شباب الأنبار ومن هم في أعمارهم، ان ذاكرتهم لا تتجاوب مع محتوى هذا المشروع بعكس جيلنا. فذاكرتي الشخصية مثلاً مشحونة بمرارات الرعب اليومي، ومطاردة رجال الأمن لنا، وتجسّس الرفاق، والتوجس من الجيران، والحذر من الأقرباء، ثمّ المطاردة حيث أذكر أنني همتُ على وجهي في ليالٍ عديدة، لا أدري أين أنام ساعات ليلي، ثمّ الاعتقال، والحرمان من الدراسة، والهجرة القسرية وهكذا إلى بقية حرائق ذلك العهد الأسود. ذاكرة كهذه مثقلة بكلّ هذا الخزين الحزين، تتفاعل مع مشاريع الذاكرة، بعكسها ذاكرة أولادي، الذين لم يعيشوا أياً من هذه المواجع.
الرأي الآخر كان يتعامل مع البعث، من خلال رباعية: الرموز، الأفكار، الثقافة، السلوك. والرموز أو كبارهم انتهوا بالمحكمة الخاصة، وأفكار البعث محرمة بالدستور، والأهمّ من ذلك ليس هناك من يشتري اليوم شعارات القومية والأمة العربية والاقتصاد الاشتراكي، إنما تكمن المشكلة بالثقافة والسلوك، وهما التركة الحقيقية للبعثية والصدامية. البعث كان في السلطة المطلقة بين 1968ـ 2003م، وهذه مدّة طويلة كرّس من خلالها ثقافته الخاصة وسلوكه، في السياسة والثقافة والاقتصاد، وفي الفنون والآداب والعلوم والمناهج، وفي الدراسات والجامعات والمؤسّسات، وفي وسائل الإعلام، وفي الشارع والسوق وكلّ مكان. ولذلك حين تجد اليوم أن مساحة مشهودة من حياتنا تتنفس بعثياً، بل صدامياً، فليس ذلك بفعل تنظيمي مباشر للبعث كحزب كما يتوهم البعض، بل العلّة الأكبر لهذه السلوكية، أنها تعبير عن ثقافة لا تزال لم تُعالج بمشروع بديل، فالبعثية والصدامية في هذه الدائرة، لا تُحلّ مشكلتها بالمساءلة والعدالة، بل هي بحاجة لثقافة بديلة تزيحها من العقول والنفوس وتُنقّي منها المشاعر والعواطف، لكي يتبدّل
السلوك.
تحدّث بعض الزملاء عن نظرية إعادة التأسيس، والإزاحة بالشاخص الميداني المباشر. فاغلب الناس هنا وفي كلّ مكان، تتعامل بحواسها ومعاييرها المادية، لذلك أعطها مستشفيات وطرق وجامعات وخدمات غير تلك الموروثة وأكثر منها، تعطيك الولاء، أو أغلبها. استكمل زميل آخر هذه الرؤية بالحديث عن نظرية أحداث القطيعة مع موروث النظام السابق بالاقتصاد، وملازماته في الاجتماع والثقافة والسياسة والأدب والإعلام والذوق والكلام والطعام، وفي الحياة
عامة!