الموت.. دالّا سيميائيّا في {شريط صامت} لعبد الزهرة زكي

ثقافة 2020/06/23
...

كمال عبد الرحمن
 
تنطلق المنهجية السيميائية في رؤيتها ((من الشكل في فهم الانسان، ولا تطمح الى أكثر من وصف وجوده)) على النحو الذي يكون بوسعها الكشف عن حيوية هذا الفهم  وحراكه وشغله داخل كيان الشكل، ومن ثم وصف فعاليته العلامية التي تصور حساسية ذلك وتنتج معناه من خلال الكيان الوجودي للانسان، 

ومن خلال فلسفة التّوجه نحو صوغ النظام الدلالي في الأشياء والرؤى المكونة لهذا الوجود داخل أعماق الدوال ونظم تشكيلاتها، والعلامة (اللغوية) عند سوسير كائن مزدوج الوجه، يتكون من (دال) و (مدلول)، وتعمل هذه العلامة على توصيل الدلالة، وهذان
العنصران: أحدهما (الدال) عبارة عن صورة صوتية او سمعية او بصرية (صورة مادية).
أما الآخر (المدلول) فهو تصور (مفهوم) ذهني غير مادي، وبذلك تصبح العلامة اللغوية لديه كيانا سايكولوجيا له جانبان، يتحدان في دماغ الانسان بآصرة التداعي، يدعو الشاعر عبد الزهرة زكي الى كشف وتعرية متواليات الموت اليومي لبلد عجيب غريب اسمه العراق، في هذا النص يرنو الشاعر إلى مماهاة عنقود من أفعال المعجم الشعري مع حال الوجع المتفاقم، استلت من مسألة الوحشة أو فعل الحزن، بتيسير من  فراديس معطلة، يصرخ من خلالها في رحاب الفضاءات المجروحة، من أجل ان يكون هذا المفهوم الأزلي للصراخ، مجرد حاسة ملتهبة تنطوي عليها قيامة الأسى:
أسرع من الصوت
 
قبل أن يجيب
ينخله الرصاص.
يصعدُ القاتل
يهدر المحرك
وتدور العجلات.
بينما تنطبق الشفتان
على جوابٍ يهمّ أن ينطلق.
 
يستقصد الناص عبد الزهرة من خلال كينونة الافعال (المتراصة، المتوثبة)، توكيد استعراض (سيرة زمنية) لفراديس يابسة، يخرجها الأسى، الى معاجمه المشفرة بأنماط واُطُر دلالية، قادرة على إنتاج فضاءات تتسع على تقرير البوح بما هو مألوف أو غير مألوف، وحين يتقعر الأسى بدلالات الخراب في فراديس القحط، فإن السياق الشعري يخرج من جادته المعجمية المألوفة ليتجذر في مستوى جمالي ينبع من داخل الذات، هاتكا أزمنة من جدلية (التمني. الحلم / الواقع . العلقم) في التجارب الشعورية، وسابرا أبعاد هذا الخراب بترويضه لمفردة الزمن، ومتأملا في انزياحاتها التي تكسر أعراف اللغة المشاكسة في خضم حركة تهتك حجب الأمكنة المطوقة بالمألوف، وتتجه صوب تأسيسات أولية لفراديس أخرى لا تتقن العطل :
 
من حلمٍ منسيٍّ
 
يشعل سيجارةً أخرى،
لكن عبثاً.. يحاول استذكارَ حلمٍ منسي.
في الظلام
تبحث الأصابعُ عن المنفضة
بينما العينُ على المرآة.
تنسلّ من الحلم، وتتقدم في المرآة
خمسةُ أشباح.
خمس بنادق
ورصاص
وظلامٌ أحمر يطبق على حلمٍ
لم يستذكره بعد.
 
 هذا هو ما يتعتق على غارب الأمل من رؤى استشرافية مظلمة، يبعث الشاعر عبد الزهرة فيها دفق الحيوية الجديدة، في محاولة لإفشال نوايا اليأس الاستعمارية (أو مستعمرة اليأس= العراق) التي أكلت ــ أو تكاد تأكل ـــ أكبادنا كبدا كبدا، ويمنح التضاد بيئة هذه القصيدة، عنفوان احتدامها، رؤى تحريضية فاعلة لها القدرة على وصف الماضي بآلة التمني التي لاقدرة لها سوى على التصور والتخيل السلبي ولاقدرة لها أيضاً على صنع تكوينات الحاضر وتشكيلهِ الواقع بفلسفاته وارهاصاته ومعاجمه التأويلية وموته المتكرر بأشكاله اليومية المختلفة، وموتى على لائحة الانتظار العراقي، قد تسنح فرصة للنجاة من بين فكي الموت، ولكنها فرصة يابسة لاروح فيها:
 
فرصةٌ للحياة
 
لن يلحق بالسيارة التي أمامه.
السيارة التي في الخلف لن تلحق به.
والثالثة التي اجتازته لم تنفجر.
ثمة متسعٌ للحياة
 
أما إيقاعات الأسى التي شاكسها الشاعر عبد الزهرة زكي في قصيدته أو(مقطعياته الشعرية)، فقد ارتكزت على تفاعلات وتضادات (داخلية / خارجية) ذات صدى قوي في تشكيل غالبية النص، ويتواشج طرفا هذه الثنائية المتضادة في نسج حركة متصارعة تبقى مهمشة خارج إطار الذات المغتبطة بحبر الأذى (الأسى) والأحزان، تتصارع الشخصيات مع نوعين من التصادم يشتغل على حاستي التعالق والصعق (موت.. موت.. وان اختلفت السبل والادوات):
 
شريط صامت
 
استدار القاتل سريعاً
عكس السير.
يدور الشريطُ صامتاً في المسجل.
وتمرّ السيارات بصمتٍ.
فيمرّ، بصمت، منصرفاً
عن عابرين يتفادون النظر إليه.
المسدس بارد بين فخذيه.
وعلى ضباب المرآة شبحُ يتلاشى
لقتيل مرميٍّ وحيداً على الرصيف.
 
وفوق هذا فالشاعر يتقمص شخوصه التي تنتشر داخل بقاع النص وعلى مدى الأسى في مدائن قصيدته، وذلك يبدو واضحا من القشرة المتطامنة على سطح النص، وهو في الأعماق يرسم صورته الخفية  في سيرة إنسانية صاغها ببراعة عبر لحظة انزياح جهة تلك العوالم التي سكنتهُ فردّها الى فضاءات النص بأسلوبية تتشكل على هيأة أسئلة رائحة غادية بين أزل النص وأبده، قادر هذا العبد الزهرة زكي ان يتقمص هيأة جرح غائر أو دمعة من نار، أو انكسار طفل، أو اغتيال براءة، قادر على الغور بعيدا في أعماق الحقيقة، وكأنني أراه يبكي ويكتب، ثم يتوقف قليلا ليمسح دمعة، ويواصل بعد ذلك مشقة السرد الشعري :
 
سيطرة وهمية
 
الشارع مغلق
انعطف بسيارته في الزقاق.
على حديد البنادق
تمتزج ملامحهم بضوء الشمس.
لم يعثر على ما يقوله.
ضوء الشمس على هدير البنادق
وعلى عينيه المفتوحتين على وسعهما
تتسمّر ملامُحهم.
 
ويرسم المبدع عبد الزهرة زكي صرخاته الصامتة بين مسارات الصدى وانكسارات السُدى، تلك المسارات التي لا تتفق على جهة ما، بل تبقى دائرة في غيابة الحزن التي تطارد الشاعر من أسى إلى أسى، كيف لا، وهو الشاعر الكاتب الاعلامي الانسان،  حيث يقف الشاعر عبد الزهرة زكي في مهب النيران مقتحما سعيرها، فاضحا ممالك الرماد التي تضيء خرافات من جمر روحها، واشتعالات كابية تخبو هناك، لتحيا هنا من جديد، لكنها جميعا تمشي باتجاه موت عجيب أبتلي به العراق.