حميد الربيعي ينثر أعماله السرديَّة عن 69 عاماً

ثقافة 2020/06/24
...

البصرة/ صفاء ذياب
 
لم تكن 69 عاماً كافية لحميد الربيعي لينجز كل ما لديه من قصة ورواية وتنظير في السرد، فقد أعلن أكثر من مرّة أن في خزانته أعمالاً قيد الإنجاز أو أعمالاً يفكّر في الاشتغال عليها، غير أن مرض السرطان الذي يعاني منه الربيعي منذ سنوات لم يمهله، فرحل يوم الاثنين، مودعاً بذلك أسراباً من الحمائم التي كانت تحوم حوله. ولد الربيعي في مدينة الكوت، العام 1951، وحصل على شهادة البكالوريوس من جامعة بغداد في العام 1976.
ليهاجر بعدها في نهاية سبعينيات القرن الماضي جرّاء الأحداث التي مرّت بالعراق، وتسلّط حزب البعث على الحكم، فاستقر في المنفى الأوروبي لمدة تجاوزت الثلاثين عاماً، أقام الشطر الأكبر منها في العاصمة النمساوية، على أمل أن يعود في يوم ما إلى بلده، وبعد العام 2003 كان موعد رجوعه إلى بغداد، ليعود من جديد كاتباً ومثقفاً له حضوره الواضح في الوسط الثقافي، ومن ثم رئيساً لنادي السرد في اتحاد الأدباء وداعماً لمن أتى بعده..
وبعد عدّة إصدارات في السرد والنقد، منها: تل حرمل، سفر الثعابين، تعالى وجع مالك، جدد موته مرتين، دهاليز للموتى، بيت جني، أحمر حانة – رواية، وأخيراً مجموعته القصصية (غيمة عطر) التي حصلت على جائزة الإبداع في وزارة الثقافة العراقية قبل شهور قليلة.
هذا الحوار الذي ننشره هنا، هو مقاطع وأجزاء من عدد من الحوارات التي أجرتها صحيفة "الصباح" مع الربيعي على مدى أكثر من سنة: 
 
* روايتك (دهاليز للموتى) توحي بمعانٍ كثيرة، ربّما أوّلها البحث عن حياتنا التي ضاعت، ومن ثمَّ تتوالى التفسيرات التي يقترحها كل قارئ جديد لها.. ما الذي أردته من هذا العنوان؟
- هذه الرواية تحمل في طياتها النقيض، دلالة وإيحاء، فخلف هذه الدهاليز التي هي للموتى ثمّة أكثر من مستوى لإبراز الوجه الآخر زمانياً ومكانياً، مما يعني بالضرورة، كما يقال في تداولية اللغة، أن الرموز بما تحمله اللغة من إيحاءات. كما أنه بالضد من الدهاليز ثمة أرض مستوية، قاعدة لحركة الناس، ومعادل للموتى من حيث الدلالة هم الأحياء الذين يدبون فوق الأرض ويرسمون خطاهم بعيداً عن القتل والموت، وكما الجملة توحي بالفعل الماضي فهي أيضا تحمل بعداً زمانياً للمقبل.
 
* كيف بدأت بهذه الرواية، وما المدة التي استغرقتها بكتابتها؟
أتذكّر أول يوم شرعت بكتابتها كان في العام 1991 مع دخول الجيش العراقي في الكويت. ومن ثمَّ فإن كتابة الرواية استغرقت اثنين وعشرين عاماً ابتداءً من العام 1991 عندما كنت مقيماً في الكويت، مع الغزو العراقي، إذ كتبت أوّل صفحة فيها على ضوء الشمعة مع انقطاع التيار الكهربائي هناك، إلى أن انتهيت منها في العام 2013.
فهذه الرواية تتناول غزو الجيش العراقي للكويت، وكانت هذه الثيمة حرجة بسبب التداخلات السياسية بين البلدين، وكلما حاولت دفعها للنشر نشبت مشكلة بيننا وبين الكويت، فحاولت أن أكون حيادياً في أثناء عملية الكتابة ولحظة النشر، وهو ما سبب التأخر في نشرها سنوات طويلة.
 
* ما الثيمة الرئيسة لهذه الرواية؟
- انطلقت فكرتها من صراع القيم، الذي أخذ في خناق الناس لقرون عديدة وبعدَّة أوجه، حتى باتت خطواته ترتسم في كل مفاصل الحياة. مشيراً إلى أن الرواية تنطلق من مفهوم بسيط يتمثل في اختلاف البداوة عن الحضارة وما يتبعها من قيم موازية، على سبيل المثال القبائل المغيرة بمقابل حضارة مدن الأنهار، وهي في هذا الصدد تورد معلومات جمة عن قبائل الجزيرة وغزواتها على مراكز المدن وبالذات عبر طريق عرعر الصحراوي، بما يحمله من إرث تاريخي في هذا المجال.
أما ثيمة الرواية الرئيسة، فتتبلور عندما يعترض "حمدان" على بناء بغداد مدورة واختلاف فروسية الشعر عن فروسية العربان، لتتدرج هذه الثيمة مع تطوّر الأحداث مفسّرة لنا حادثة (غزو الكويت). في هذا المجال كانت المعالجة السردية تتمثل في الكم الهائل من رحلات القبائل في أثناء ترحالها أو نزوحها أو غاراتها، يقابلها ذلك الربط التاريخي بين شخصية حمدان وشخصية كفؤ البابلي، المعاصر لأحداث غزو الكويت، وصولاً إلى الحرب الطائفية قبل بضع سنوات.
ومن ثمَّ، فإن هذه الرواية مجموعة حكايات يرويها شخص اسمه خضر البابلي لابنته سومر، بعد العام 2003 ترجع ابنته سومر وأخته بالرضاعة ليعيشا في قصر علي الشبوط في مدينة الكوت، الذي كان إقطاعياً ومسيطراً على الأراضي الزراعية في تلك المدينة، وهو من الشخصيات النادرة في التاريخ العراقي.. عشت في بيت هذا الرجل وتعلمت الكثير منه. ومنذ دخول القوات الأميركية في العراق وحتى العام 2013 تقوم سومر بإعادة سرد الحكايات بطريقتها الخاصة.
 
* عرف عن الروائي حميد الربيعي اشتغاله على الموروث الشعبي وإفادته منه في أغلب أعماله، فهو يعدّه جزءاً أساسياً من ذاكرة جمعية للناس، ما الذي يميزك في هذا؟
- الجماعات البشرية هنا ما زالت تعاني الصراعات والتصدّعات، ولم تتشكّل بعد وحدة انسجام أو تكوين جامع لها، عندئذ يصبح هذا الموروث جزءاً من ضاغط قسري على الفرد، مما يستدعي بالضرورة محاولة إعادة قراءته بما يتناسب مع الواقع المعاش، من حيث التشذيب أو الشطب أو التركيز على نواح دون غيرها، مما يعني غربة هذا الموروث عما هو قائم.
ومن ثمَّ، فإن الذاكرة العراقية مثقلة بهذا الخصوص، من دون أن تجري عليها مراجعة، من حيث إعادة تقييم الموروث الشعبي أو إعادة تشكيله ليكون متماشياً مع العصر. ففي هذا الموروث ثمّة جوانب وشخصيات، تحوّلت على مرِّ التاريخ إلى رموز اجتماعية، تمتلك في تكوينها الأنموذج الذي لا بدَّ من البناء عليه وطرحه سردياً كشخوص تعيش تجليات وتناقضات واقعنا اليومي.
 
* بعض النقاد العراقيين، ومنهم الدكتور حسن سرحان، يرى أن الربيعي يشتغل على أساطير مستقبلية أو آنية، كيف نفهم هذا؟
- هذا صحيح إلى حدٍّ كبير، فأنا أحاول صياغتها من جديد، وفق الظرف والزمان الحاضر، ومن ثم جعل الشخصية الروائية تسعى، ضمن حركتها الحياتية، إلى بناء أسطورتها الخاصة بها، ففي حياتنا يبدو العيش ضمن هذه الظروف القسرية، والتي تضغط على البشر في نواح عدة، يبدو بحد ذاته أسطورة، بتحدّيها للمألوف وخلقها لعوالمها الخاصة، تلك التي تتشبث بها من أجل جمالية الحياة والإنسان.
الأسطورة هي الشكل الحياتي الذي جابه به الإنسان الأول مشاكل العالم والغيبيات، في محاولة لمعرفة وتأويل ما يحدث، ومازلنا نحن بني البشر ساعون بهذا الاتجاه، فرغم كل التطور العلمي الحاصل، ألا أننا نبحث عن الخلاص، وان اختلف الآن عما كان عليه أيام الأساطير الأولى أو بدء الحضارة البشرية، إن إعادة سبر غور الأسطورة في السرد الحديث، إنما هو اِتّكاء على قيم إنسانية، تستطيع أن تأخذ بيد الحضارة الحديثة في خلق أفق معرفي، ينير درب الحياة، في بناء مستقبلها .
ومثلما أبحث عن الأسطورة وتمثيلها في كتاباتي، إلا أنني منشغل أيضاً بالموروث الشعبي من الأغاني والحكايات إلى المخزون الجمعي في الذاكرة للأجيال، وذلك لأنه القيمة المعرفية لأي شعب كان، فهي منابع روحية وقيم ثقافية تشكلت في بدء التكوين، عندما كان الإنسان يبحث عن تفسير الظواهر التي تحيط به، وهي في الوقت نفسه الوجدان الشعبي من خلال إعادة صياغة تلك الظواهر، بما يتطلب من عصرنة، أمام تشظي المجتمعات الحديثة.
 
* وماذا عن المكان؟ يلاحظ أنك معني بالمكان أكثر من أي ثيمات أخرى في أعمالك..
- قد تعشق المكان مع تفاصيل الحكاية، حتى يبدو وكأنَّ ثمة آصرة لا فكاك منها في الربط، وفوق هذا هنالك حيوات تتحرك، في كل تناقضاتها الحياتية اليومية، من بؤسها وتعاستها إلى مسراتها وأفراحها، إنهما معاً يشكّلان خليطاً واحداً اسمه الناس، الذي يعيش الآن على رقعته وتمر به كل هذه الظروف، التي تسمعون بها.. فلولا المكان لاعتقدت أن (داعش) لن تنبت في العراق مثلاً، ربّما ستجد لها مأوى آخر، ولولا المكان وفضاؤه لما شمخ لدينا (السياب)، وأيضاً لولا المكان لأضحت كتاباتي بعيدة عن وهجها، ذلك الألق الذي اسمه فضاء رحب، يكلل الجميع ويتيح مجالًا إلى البوح والسرد.
 
* ومثلما للنقاد رأي، فإن للقرّاء آراء أيضاً في كتاباتك، فقد تحدّث بعض منهم بأنك قدّمت في روايتك الأخيرة أسلوباً مغايراً عن اشتغالاتك في أعمالك السابقة..
- إن رواية (دهاليز للموتى) مغامرة، ليس في مجال التجريب السردي فحسب، إنّما ضمن سياق ما كتب سابقاً، وعلى الرغم من أنّي أكتب رواية حداثوية، لكني أسعى إلى وضع ملامح مميزة للسرد العراقي، يختلف بها ويتميز عن غيره من الساحات السردية العربية والعالمية. 
في حياتنا المشبعة بأشكال الغرائبية، بدءاً من قنينة الغاز وصولاً إلى التعقيدات السياسية والاجتماعية، تحتاج إلى إعادة صياغة الحياة سردياً بما يأخذنا إلى بر الأمان، وبر الأمان هنا هو الوعي الفكري، الذي يجعل منا بناة حضارة وثقافة، واعتماداً على كل التجارب السابقة لا بد من طرح أشكال جديدة في الكتابة.
 
* وأنت كيف تنظر لهذا العمل كروائي وكقارئ؟
- هذه الرواية كانت مماهاة للتاريخ وتغريب الزمان ولا واقعية الأحداث وانسحاق الأنساق وانصهار القيم الإنسانية، كل هذه التنويعات قادت إلى تحويل ما هو قائم سردياً إلى رؤى حداثوية، تخترق وتتجاوز الراكد والقائم والموروث، ومتطلّعة إلى آفاق جديدة في التقنية السردية، حسب المدارس النقدية الحديثة.
 
* من المعروف أن أغلب الروايات العراقية لاتبتعد كثيراً عن السيرة الذاتية للكاتب، إلى أي مدى تصحّ هذه المقولة عن أعمالك السردية؟
- لا يمكن لأي كاتب أن يبتعد تماماً عن سيرته الذاتية في كتاباته، وإلا ستكون خاوية من الإحساس الذي يريد الكاتب بثه داخل عمله الإبداعي، إن كان شعراً أم سرداً، ومن ثم، فإنه متى ما طغت السيرة على مكونات الرواية وتقنيتها وأصبحت الهاجس الذي يشغل بال المؤلف ويجعله المسبار لسير العملية السردية، هذا الطغيان من السهولة عدم إدراكه لدى الكاتب غير المتمرس، إذ يتراءى له أنه يكتب سرداً مميزاً، لكن في الحقيقة أن ذاكرته تضغط باستمرار نحو البوح الذاتي، وكأنه لا فاصل أو تمييزا بين مكونات الحكاية، وتلك السيرة. الإشكالية صعبة، بيد أن إدراكها هو الأهم في كتابة الرواية، لأن السيرة سوف تسيِّر حوادث الرواية باتجاه المبتسر من يوميات المؤلف، بينما الرواية تتطلّب الرسم الهندسي لأحداثها وشخوصها وأزمنتها وأماكنها، وهي التي غالبا ما تمحى من السيرة، إذ تصبح الحكاية الذاتية الشخصية هي المعيار الذي يقود حركة الأشياء، في حين تتطلب الرواية أحيانا التوقف أو الانتقال بالسرد من صورة إلى أخرى، أو من زمن إلى آخر، بينما في السيرة تهيمن الذات وسيرتها على السرد.
أما إذا أردنا أن نبحث عن الحد الفاصل بين الرواية والسيرة الذاتية للروائية، فإن القارئ الفطن يدرك بالضرورة تلك الفروقات الطفيفة أو العميقة بين الاثنين، ما سيدفعه إلى إدراك هدف المؤلف. قد تكون بعض الوقائع غائبة عن ذهن القارئ وستحتم عليه الأخذ بما يطرحه المؤلف، كمسلّمات بأنها حقائق تاريخية، من هنا تتأتّى الصعوبة، بيد أن المؤلف من جانب آخر عليه أن لا يوقع قارئه في منطقة الالتباس هذه، فهو بهذه الحالة سيصبح أحد مزوري التاريخ، ولإزالة الإشكال، لا بد له من خلال السرد الفصل بين ما هو تاريخي وما هو متخيل، بمعنى آخر: هل المؤلف يسحب ما هو تاريخي إلى المتخيل أم العكس؟ أعتقد أن مهارة الروائي تتجلى في هذه الخاصية، التي يدرك المؤلف سلفا مقدار الإجادة والمران اللذين امتلكهما في طريقة إعادة خلق تلك الحوادث فنياً.
 
على الرغم من اهتمامك بالرواية، غير أنك لم تبتعد عن القصة القصيرة، فأصدرت أكثر من مجموعة قصصية خلال السنوات السابقة، إلى أي مدى تمكّن حميد الربيعي من الفصل أسلوبياً بين هذين النوعين الأدبيين؟
- القصة القصيرة تعد لقطة مكثفة في اللغة وأحادية السرد، لها خصائصها في وحدتي الزمان والمكان وكذلك في التقطيع، أما الرواية فهي عالم كامل في كل أبعاده وهي رحلة طويلة في أعماق الشخصيات وتقلّباتها وتدرّجها في التحوّلات، الرواية تبني وشائج اجتماعية قائمة على أساس تقويض ما هو قائم وإعادة خلقه من جديد وفق رؤيا تتشرب معرفتها من حركة الأشخاص والأحداث... الرواية تعد امتداداً زمانياً في اتساع الرقعة وتأثيرها المتبادل. أنا شخصياً مررت بالتجربتين، التحوّل هذا اختزل في عشر سنوات من لملمة أدواتي المعرفية، العامة والخاصة، مع دراسة نقدية للواقع وتخزين الصور الحياتية ومن ثم انطلاق التخيل على اعتبار انه أداة إبداعية، تمتد من مخزون اللغة وتنتهي بمقبولة القارئ 
للإبداع.
 
* بعد عدّة أعمال قدمها الربيعي في القصة القصيرة والرواية، فقد صدرت له "سفر الثعابين" و"تعالى وجع مالك" و"جدد موته مرتين"، على الرغم من انهماكه بأعمال جديدة.
- منذ مدة كتبت تغريدة في موقع التواصل الاجتماعي أثارت كثيراً من الاهتمام، مفادها: أن السرد أشد قسوة في حكمه على هذه المرحلة من التاريخ، هذه التغريدة عنوان كبير أسعى وراءه في محاولة لتمحيص ما يمر بنا يومياً من أحداث وهزائم، هنالك الكثير من المتغيرات في حركة المجتمع، التي أبني عليها عملي الروائي المقبل.. لا تجعلني أبوح لك عما يعتمل سردياً الآن، لكنه على العموم سيكون بمثابة انفجار بدويٍّ شديدٍ.