(الأسود) كامتياز ومدعاة فخر

استراحة 2020/06/24
...

عبدالزهرة زكي
 
بعد عقودٍ مضت على تجريم العنصريَّة تعودُ حركة الاحتجاج المتنامية في أميركا وأكثر من بلد غربي تحت شعار (العدالة للحياة السوداء). مقتل جورج فلويد فجر الاحتجاج، لكنَّ الاحتجاج يتنامى بحيث يتجاوز حتى مشكلات تقليديَّة كالتسميات.
مصطلح (السود، والأميركي الأسود، والحياة السوداء) لم تعد مثار خلاف كما هو الشأن قبل سنوات.
صفة السواد باتت امتيازاً بموجب حركة الاحتجاج.
قبل عقود كان تعبير (الزنجي) هو السائد في وصف الأفراد والجماعات من أصل أفريقي.. 
(الزنجي) تعبيرٌ لم يكن متداولاً لدى السود، لكنه أطلق عليهم من قبل الأوروبيين. جرى القبول به من قبل السود أنفسهم، وجرى تداوله ما بينهم قبل أنْ يعبّروا عن انزعاج منه، حيث جرى تحميله بمحمولات عنصريَّة.
في العقود الأخيرة لم يجد شبان السود بأساً في صفة السواد وهويتها، فتبنوها. لكنَّ السود من الأجيال الأقدم ظلوا يصرون على زنوجتهم، حتى واجه موظفو الإحصاءات السكانيَّة في أميركا، مثلاً، مشكلة في تحديد الهوية للسكان ذوي البشرة السوداء، لكنَّ المنطق البراغماتي استوعب الخلاف فمنح الفرد حق اختيار التسمية؛ أسود، زنجي.
قبل سنوات قليلة بدأ التفكير لدى السود الأميركان باستعادة الهوية، فاختاروا التسمية المركبة: (الأفريقي الأميركي)، أو (الأميركي من أصل أفريقي). هذا تعبيرٌ أكثر أصالة ولا ينطوي على أي محمل عنصري، لكنه معقد.
مع موجة الاحتجاج المتواصلة تستعاد صفة السواد كهويَّة، وكتعبير يدعو للاعتزاز.
كنت مرة في مدينة هولندية بجولة تمشٍ مع أصدقاء اجتزنا خلالها جسراً قصيراً. 
أثناء الاجتياز هطل مطر كثيف ومفاجئ فتوارى عن الجسر جميع من كان عليه، لم يبقَ بمكانه على الجسر سوى مغني رصيف، كان المغني أسود، وكان قد بقي حيث هو تحت المطر سعيداً، يغني ويرقص، بينما قبعته خاوية على الأرض أمامه حتى امتلأت بمياه المطر خلال لحظات. 
أنا أيضاً بقيت واقفاً، لقد ألهمني هذا المغني اللطيف فكرة قصيدة، كان هو بطلها، اكتملت في ذهني خلال لحظات. وما أنْ دونتها، وقرأها من كان معي حتى قيل لي: “ماذا تفعل؟ كيف تسميه مغنياً أسود؟ هذا تعبير بنزعة عنصريَّة”. استنكرت ذلك الاعتراض، أبقيت الصفة كما هي. بعد عامين واجهت المشكلة نفسها حين أُريد ترجمة القصيدة عند قراءتها أمام جمهور غربي، عادت المشكلة فطرحت ثانية من قبل عرب كانوا حاضرين. وبقيت هنا أيضاً عند موقفي نفسه، فلا أنا ولا السياق الذي جاء به التعبير ولا فكرة القصيدة كلها تنطوي على نزعة عنصريَّة.
واقعاً كل تعبير يمكن أنْ ينطوي على الشيء وضده، هذا ما تتحكم به نيّة المتكلم والسياق الذي تأتي به الصفة أثناء التعبير عنها. كل شيء يحتمل أنْ يكون بريئاً لا غرض وراءه ويمكن بخلاف هذا أنْ يحتمل التجريح والإساءة.
ولا أسوأ من التفوه بكلام يترك جرحاً ما في وجدان أي إنسان.