قشرة شعريَّة لجغرافية فليحة

ثقافة 2020/06/25
...

 
اسماعيل ابراهيم عبد 
 
 
بدءاً يمكننا القول إن التجربة الأدبية والمعرفية للشاعرة (فليحة حسن) تتميز بعمق وتنوع وتعدد المتجهات الوجدانية والثقافية المؤلفة لها، ولطالما صار الفعل الثقافي لديها ديدناً لاشتغالِ سامٍ (تقني/ جمالي)، (فردي / جماعي). 
إن للتربية الشخصية والتجربة الذوقية المنتمية الى فكر انساني منتظم، لهما أثر كبير في اتمام خطوتها المهمة، مجموعة (وأنا أشرب الشاي في نيوجرسي). 
ان للمفردات الشعرية علائق بيئية مع المجتمع الثقافي ومجتمع التلقي التخصصي، بحساب القيم التي يثيرها الفعل الشعري أثراً وتأثيراً، وهذا سيفاعل (الشعرية) بنوعية وطبيعة وبيئة جهد الكتابة تماشياً مع فكرة التدرج في تبويب نسق المعلومات عبر محاور متضافرة تتخذ من أسس وتحولات التجربة تطورا لأنموذج كتابة الشاعرة الفني بصيغة الاتمام. يلاحظ ـ على عموم العمل ـ 
ان الشاي ونيوجرسي ما هما سوى قشرة للفعل الشعري، اما فليحة حسن بذاتها وشخصها وظرفها ووجودها، فهي جغرافيا لعمل شعري وجدتني لحيز كائن شعري ملموس.. إن التجربة الأدبية تجربة حياتية، لكنها تنتمي وتنمو في حاضنة ثقافية، لها ظرفها من الجانب الفني والقيمي، ويمكنني تقصي متون التجربة لدى الشاعرة وحصرها بين ثلاثة اتجاهات لتجربة الشاعرة فليحة حسن 
هي:
1ـ الذاتية الفردية المصنوعة: إذ لو دققنا البصر الذهني في المقطع الآتي لوجدناها خطوة لحوار حضاري بين (ذات) فردية لشاعرة مع رجل، هو الآخر (ذات) لكنه ليس بشاعر، هذا التقابل غير المتكافئ هو صناعة مضللة، كأنه حوار بين حضارة بابل القديمة وشاعرة حديثة من زمننا هذا. لنقرأ ونرى: [حدثني رجل من بابل قال: كنت كلما أتعبني اسمي/ رميته في النهر/ وعدتُ جديداً...].
تتطور الخطوة الأولى نحو بناء وصف يخص اسم الشاعرة، إذ يبدو انها تؤيد رجلَ بابل الذي يغير الأسماء (العصور، أنواع الحكام)، وتؤيد أن النهر (الجريان/التغير) حتمياً وتبدل الأسماء مظهر لتبدل العصور والسلاطين. كل آت 
جديد.. 
هذا حكم أزلي حتى لو تعارض مع المقولات الفلسفية للزمن الممتد المطاطي. ان الخطوة المكملة هي (الشاعرة مدينة)، انثى، ضحكة ماء اسمها البصرة. ترى كيف يجرى الحوار بين بابل والبصرة ؟/ [وكانت البصرة ـ حتى قبل ان يكون السياب شاهداً على شوارعها/ وراوياً عظيماًـ تستحم بقصائد خضراء كقلب شاعرة].
 لكن الشاعرة (بصرة) لم تكتب القصائد، إنما تستحم بها، تلونها بالأخضر  (سعف النخيل)، وبالقلب (جمار النشو منها)، وربما هو اللون الوردي للقلوب المحبة الملتصقة بقصائد السياب.
لعل هذه الفردية للشاعرة (بصرة) أوكلتْ عنها ناطقاً باسمها هو السياب، أعطته حق رمي الأسماء الى نهرها، لأجل ان يصنع منها رواية أو حكاية تسبقه بآلاف السنين كحكاية السندباد. لعل الشاعرة قد أكملت صناعة فرديتها الفريدة بحيازة صفات منتقاة من عظمة حضارة رجل بابل، وبهاء وشعرية قلب وسعف أجداد السياب، النخيل 
والشعراء.
2 ـ الذاتية الجمعية: ان الحديث عن الذاتية المصنوعة يفتح لنا نافذة على (ذات) فعالة، تبدل فرديتها بجماعية أكثر منها مضياً في تأثيرها على متابع العناق الحضاري والثقافي بين بابل وبصرة، إنه عناق الوجود والأُسطورة والشعر، تنطقه ذاتاً لترمم به وجد جموع : [يقف أميرها مشيراً للعثوق ويغني/ فترقص الحواري/ سمراوات/ كطين البساتين/ ناعمات/ كطين البساتين/ تفوح الحناء منهن/ كطين البساتين/ وتحت كل نبض منهن قصيدة/ لايحرفن مشيتهن الى 
النهر].
الشاعرة خلقت ندّاً لها هو الأمير، والأمير مغنياً، وهو ليس بشراً انما صوت، والصوت يجعل العثوق لحنه والحوريات رقصته، الحوريات السمراوات طين البساتين خولن عنهن الشاعرة (بصرة) لتزرع في كل نبض فيهن قصيدة، والشرط بين الشاعرة والحوريات السمراوات، ألّا يمشين الى النهر، لرغبة الشاعرة في (عدم تبدل أسمائهن لأن من أجلهن تتبدل الأسماء، ولأنهن من يخلدن النهرَ لا العكس، فهن الماء والجمال والحناء والعثوق.. هن 
البصرة).
3 ـ الذاتية الجغرافية: الذوات السابقة تضمنت مجسمات مادية، بشرية مكانية لكنها لم تكن مقصودة، بينما في المقطع المقبل سنجد حدوداً معينة تدل على الأقاليم والساكنين، فضلاً عن الغمز الأُسطوري؛ لذا فالمقطع المقبل ليس له دلالات جغرافية تامة ولا دلالات ذاتية تامة، ولا دلالات جماعة سكانية محددة تماماً، انما هو خليط زماني مكاني وجداني استحق ان يكون مشهداً شعرياً لدلالات ذات (جغرافية ـ وجدانية)، لها قوة وجود شعري وتجسيد وجدان ذاتي (لضلالة جغرافية، وايهام شعوري) يرسمان الشعرية:  ))ولم تكُ (خمسة ميل) قد وجدتْ لها في المدينة بقعة تتسع منها/ ويؤكد: وكنت أزورها في الليل كما زيارتي في النهار/ الشمس والقمر متعانقان ليس بينهما جفوة فيتخاصمان/ وماء حلو في الخليج/ كل سفينة تأتي بحملها/ يتزود ملاحوها بقضمة تفاحة/ وشيء من عسل/ النساء نضرات/ تدار أعناق الرجال كلما مَرَّ ظلُهن تحت السعف((. ان الحدود المركزية للجغرافيا تتمثل في ((خمسة ميل، المدينة، الشمس، القمر، الخليج، السعف)). 
وان عناصرالأسطرة الوجدانية تتمثل بوجود كل من (الراوي الذي يؤكد زيارته للمدينة، ثم العناق المستحيل بين الشمس والقمر، ثم مرور ظل النساء تحت السعف). بينما ضلالة الأقاليم فتتمثل في (حلو ماء الخليج = الوئام الاقليمي، قضم التفاحة  = الخطيئة، التزود بالعسل = اللذة). وكذلك الايهام الشعوري يتمثل في (اتساع بقعة خمسة ميل، لا جفوة بين الشمس والقمر، نضارة النساء، استدارة أعناق الرجال نحو النساء 
العسل).