جمال العتابي
يا أهل بغداد.. لم أعرف أنكم ستتضاءلون في زمن الحروب، وتضمحل الضحكات على وجوهكم، لقد أودعت فيكم جداريتي ولوحاتي وعدسة كاميرتي، يوم كانت مدينتكم عافيةً وخيراً في خمسينات وستينات القرن الماضي، كان لديّ إحساس أن حب بغداد لايزول، ليس لدي شك في المصير، أو خوف من القدر، ويوم أقدم عبد الوهاب فيضي على تشييد مستشفى خاص باسم الأسرة.
اختار مفترق طرق يتصل بالكرادة وشارعي النضال من كل الجهات، الركن الذي شغله المشفى كان مضجع أشجار مزهوة بأنوثتها وعبيرها، في وسطها صار المشفى مثل نجمة مضيئة تشتاقها العيون في هدأة ليل. والورد ينمو على شرفاته، يتفتح كالثغر.
ثمة ما يشعل الحواس في المبنى الأنيق، وما يوقد الحجر الصلد من غفوة، حينذاك ندرك معنى الجدارية التي تصدرت ركن المبنى، وهي تتقاسم الضوء والشوق المقيم فينا، احتفى المكان بالجدارية التي نفذها الفنان ناظم رمزي بمادة الموزائيك، لتعلن عن جدارتها في التأليف والمجانسة، يوم كان رمزي وفيضي يأخذهما هوى بغداد ويجمعهم، وهو يغري بالتطلع نحو الحداثة والمدنية، كان لدى الاثنين شعور سخي مفصح عن تجلياته وفيوضه الجمالية الجديدة، منبئاً عن دور الطبقة الوسطى في قيادة المجتمع. التي حسمت الموقف لصالح الحداثة واستجابة للاستثناء الجديد في الحياة، كان أبناء هذه الطبقة يتباهون ويتنافسون في تزيين جدران بيوتهم بأعمال فنية لرسامين ونحاتين من أساتذة الفن التشكيلي، يقول الدكتور المعماري خالد السلطاني إن بيوتاً بغدادية من تصميم المعماري قحطان المدفعي، اتسعت لأعمال فنية لفنانين كبار، جواد سليم على سبيل المثال اشتغل جدارية فسيفسائية في أحد البيوت.
المشفى والجدارية كان عالماً صغيراً، جعله فيضي جزءاً من حياته، وجد له الكثير من المسوغات ليصبح في وضع يقنع الآخرين بأنه يفعل ذلك ليشركهم معه فرحة الاحتفاء بجهد إنساني نبيل، وسبيله للوصول الى أعمق اللحظات التي تسكن فيه، فلم يجد مناصاً للتعبير عن المنظور وتكثيفه، فذهب صوب الماضي، وتداخلت الألوان وتساندت في لوحة لإبن سينا الطبيب، تؤلف بين رؤيتين وزمانين، فكان عملاً متطابقاً مع فكرة
المشروع.
ما الذي جعل الجدارية تذوي؟ وتنام عيون الوطن عن لصوص، وقتلة، وسماسرة، ليتني أفهم ما الذي جرى؟ بعد أن غادرت البلاد مكرهاً، يتساءل رمزي بمرارة!
دعني يا ناظم أروي لك باختصار شديد ما سجلته ذاكرة شاهد وجد نفسه في امتحان عسير يوم امتدت المعاول لتهدم المبنى، وظلت الجدارية وحيدة تتكسر من فرط أحزانها.
كانت هناك نبرة عالية بأصوات الفنانين تطالب وزارة الثقافة وأمانة بغداد بإنقاذ الجدارية، كانت الأصوات قاصرة في فرض إرادتها بنقل العمل من المكان الذي تفوح منه رائحة بارود المفخخات التي تفجّرت حوله، ورائحة عفن النفايات التي تكدست أمامه، لم يكن للأصوات المبحوحة من صدى أو استجابة، في زمن الإرهاب والموت في الشوارع الخرساء.
المبادرة الأخيرة والوحيدة جاءت من خارج أسوار العراق، مثل ضوء أبيض بدد صمت السنين، إذ تبرعت أسرة فيضي المقيمة في لندن بالجدارية لوزارة الثقافة، بالاتفاق مع الفنان ناظم رمزي الذي مازال مسجلا على قيد الوطن، واشترطت الحفاظ على تفاصيلها أثناء النقل، وتحمل تكاليفه، وأوكلت المهمة للمبدع الطباع مريوش فالح (أبو رمزي)، خريج مدرسة ناظم الطباعية التي تعلم فيها فنون الطباعة والتصميم، وأسرار اللون وأصبح من أهم وأبرز المتخصصين في هذا الميدان، تم اختيار إحدى واجهات معهد التراث التابع لدائرة الفنون، كبديل مناسب ومنسجم مع مضمون الجدارية، وأكمل السيد مريوش الإجراءات الأصولية القانونية والإدارية للمباشرة في تنفيذ النقل.
تمضي الأيام مسرعة لنفاجأ بمقترح مدير الدائرة الهندسية في الوزارة عن استعداد دائرته لنقل الجدارية بإمكانات موظفيه (الفنية) المتواضعة، ثم يتفتق ذهنه بعد أيام قليلة، بمقترح آخر أغرب من الخيال مخاطباً رأس الوزارة: ما الداعي لنقل الجدارية يا أستاذ؟ (خلي نسوي مثلها)!! لحظتها شعر الشاهد أن مطرقةً من حديد هوت على رأسه من الخلف، ويداً أخرى مسكت بخناقه ضيقت عليه فرصة سحب أنفاسه، ليستعيد توزانه، ليس أمام المرء في لحظة مثل تلك سوى الغضب، قد يكون وحده أسرع الاستجابات في المواجهات الفاصلة، وقّع المسؤول بالموافقة على المقترح (الفلتة)، حين كان يمسّد لحيته المخضبة بالحناء، وهو لا يدري من هو ناظم رمزي!! وذهب الشاهد نحو اللا جدوى!
هذه هي الحكاية يا ناظم!!
كانت عيناه لا تقويان على الحزن، وهو يتابع مايرويه الشاهد!
ماعدت أفكر بتراب العراق ياصديقي، وها أنا أموت وبي حسرة أن يغتسل جسدي بماء دجلة، لقد صادروا كل ممتلكاتي، المطبعة وأوراقي، ومكتبتي، وكاميرتي التي كنت ثملا بما تلتقط من أيما نبع أو عيون، من أيما وجوه وزوايا، أنا المفتون بوطن من سلالة الأنبياء، كنت أمشق حروفا وأدعية ورقى لحبيبة اسمها بغداد، المجنون بمشاهدها بـ (الأسود والأبيض) عرافاً أجوب طرقاتها، تسمعني شجناً وأبادلها عتاباً وبوحاً خافتاً:
دعوا ابن سينا في عمامته وجبّته القديمة وحده، فهو غير مدجج بالسلاح، ولا يحرّض على القتل، يكفيه أن تملؤوا كأسه ماءً كي لا يجف ريقه، أعرف أن الوطن ظمآن، ويُسرق ماؤه ونخله.
أغار عليك يا ابن سينا، فأنت نبضة الوريد التي تركتها في بغداد، أنت إرثي الوحيد المتبقي فيها.. حين يأفل وجهك تأكد أن هذا الإرث قد مات... قاوم إن تمكنت واِصمد! إن كنت تسمع ندائي عبر المسافات، وويح قلبي ما تاب عن العشق، فكل شيء بعد ما نمضي لأبناء هذه الأرض...
لماذا يا ناظم.. أنت خسرت زماناً وحلماً جميلاً وغادرت، تركتني وحيداً، ما نابني منك غير الألم!
تعبتُ، وأتعبني الجهلة والأميون وأبناء الرعاة، وكل عام وأنا ألمّ دموعي وأجمعها في هذه الكأس كذكرى، من سيبكي معي، من يواسيني؟ من سيحزن مثلي على غيابك يا ناظم؟ لست أقوى على زمن غارق بالوعود الكاذبة!، هي ذي بغداد نهر طافح بالنفايات يطوقني! أكاد أختنق... سلاما.