ثورة العشرين.. الجدل العراقي الذي لا ينتهي
ثقافة
2020/06/30
+A
-A
البصرة/ صفاء ذياب
ما زال شعار (الطوب أحسن لو مكواري) من الشعارات التي يتداولها العراقيون على الرغم من مضي 100 عام عليه، إذا جرى على ألسنة العشائر العراقية في أثناء ثورة العشرين التي انطلقت جرّاء الاحتلال البريطاني للعراق ورفض العراقيين لفكرة (تهنيد) العراق، أي جعله مثل الهند كجزء من الدولة البريطانية.
فهذه الثورة التي انطلقت مع شهر آيار واستمرت لبضعة شهور في أغلب المدن العراقية، ما الذي بقي من هذه الثورة وآثارها اليوم؟ وكيف يمكننا قراءتها في ظل الثورات التي مرّ بها العراق، والتحوّلات التي طرأت على السياسة العراقية، ابتداءً من الملكية التي ترسّخت في العراق بعد عام من هذه الثورة، وحتى العراق بشكله الحالي:
ولاية هنديَّة
يرى الدكتور عبد الحميد الكعبي أنه مع حلول الذكرى المئوية لثورة العشرين لا بدّ من القول إنها جاءت امتداداً لثورة 1914 وتشكل حزب حرس الاستقلال 1919، واستقالة أعضاء مجلس إدارة وبلدية الشامية والنجف من مناصبهم في شباط 1920، الذين أوضحوا بجلاء أنهم يريدون قراراً نهائياً باستقلال العراق، وقد ترافق هذا الموقف مع استقالة أخرى قدمها بعض الزعماء القوميين من مجلس بغداد للأسباب ذاتها.. لكن اجتماع 26 آيار ببغداد لعدد من ممثلي المدن العراقية تحت غطاء مولد نبوي الذي أعلن فيه مطالب الوطنيين وخلاصتها: تشكيل جمعية وطنية عراقية ينتخبها الشعب تجتمع ببغداد لمهمة تأليف حكومة مستقلة من أي نفوذ أجنبي، يرأسها ملك عربي مسلم، ضمان حرية الصحافة والأحزاب، المطالبة بتحقيق الاستقلال المطلق للعراق، وهو ما أدّى لانطلاق هذه الثورة التي دعت أما الانسحاب التام من العراق، أو السيطرة
التامة.
ويكمل الكعبي: هذه الثورة على الرغم من هزيمتها العسكرية، فإنها نجحت في التأثير على السياسة البريطانية، وفرضت على الإنكليز احترام الكيان العراقي، وعجّلت بظهور مواقف جديدة في السياسة البريطانية، فاستبدلت الخطط السابقة الرامية إلى ضم العراق إلى الولايات الهندية، أو إدارته مباشرة من قبل وزارة المستعمرات البريطانية.. وانتهت تلك السياسة إلى تأسيس دولة عراقية حقيقية بنظام وهيكلية حكم تماثل تماما النظام البريطاني، أي هناك ملك ومجلس وزراء وبرلمان منتخب ومجلس أعيان وحرية صحافة وأحزاب وجيش قوي مستقل.
كشف الحقيقة
ويُبيّن الدكتور علاء كاظم الوائلي أن ثورة العشرين تعدّ من أبرز الأحداث في تاريخ العراق المعاصر، ويمكن القول إن أحداثها تشكل مرحلة قائمة بذاتها إلى حدٍّ كبير، كما تمثّل انطلاقة لمرحلة جديدة لاسيّما ما حقّقته من نتائج كان لها أثر كبير في تاريخ العراق السياسي.
ومن هذا المنطلق كانت هناك الكثير من الدوافع السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي جعلت أبناء العراق في كل مناطقهم يشاركون في التصدي للاحتلال البريطاني، وذلك من خلال القيام بالكثير من المقاومة والتصدي والثورة عبر صور كثيرة، والتي أدّت بالنتيجة إلى إضعاف الوجود البريطاني في العراق.
ثمّة حقيقة تاريخية، هي أن ثورة العشرين لم تكن حدثاً عابراً في تاريخ العراق السياسي، بل فتحت في نتائجها آفاقاً جديدة في مستقبل العراق ونقلت إدارة الحكم البريطاني من الإدارة المباشرة إلى ما عرف بتسمية (الحكم الوطني) عبر القيام بالثورة الوطنية العام 1920 التي كان لأبناء العراق إسهام واضح ودور مميز خلالها، في حين كشفت الثورة حقيقة من اصطف إلى جانبها ومن ساند واستكان للاستعمار؟
مشروعيَّة الثورة
وبحسب ما يرى الكاتب قاسم حنون فإنّ الجدل مازال قائما بشأن أهميتها وقواها الفاعلة ومكانتها في النضال التحرري لشعبنا، ولعل أسئلة البحث والمراجعة تستحث النظر والتأمّل في الوقائع، فالتاريخ بتعبير أحد المؤرّخين سجال بلا نهاية، وسنجد حتى الآن من يسعى لنزع المشروعية عن الثورة الفرنسية تموز 1789 والثورة الروسية أكتوبر 1917 برغم كونهما انعطافتين مهمتين في التاريخ العالمي، وما يثار من تشويش وإثارة في كتابات عراقية على مشروعية ثورة 1958 التي دشّنت الاستقلال السياسي وأنهت ارتباط العراق بالحقبة الاستعمارية كرد فعل على عدد من وقائعها وأداء الحكومات المتعاقبة في العهد الجمهوري.. لهذا تمثّل ثورة العشرين بحوادثها وميادينها منطلقاً تأسيسياً للكفاح الوطني وانبعاثاً للوطنية العراقية برفض الاحتلال البريطاني والتطلّع لإقامة كيان مستقل، وبرغم تمايز مكوّنات الثورة من أبناء العشائر ورجال الدين وبعض ممثلي الانتلجنسيا الفتية إلّا أنّه لا يمكن إنكار المؤثّرات والعوامل التي عصفت بركود البنية الاجتماعية والثقافية، ومنها الدولة العثمانية في طور التنظيمات ودستور تركيا الفتاة 1908 وحوادث الثورة العربية في الحجاز والمآل الذي وجد فيه ممثلوها بعد تحالفهم مع البريطانيين، وتأثيرات ما كان يجري في إيران على خلفية التوتر بين المشروطة والمستبدة وأحداث الثورة الروسية ووعود حكومتها الاشتراكية في رسائلها وندائها إلى شعوب الشرق وفضحها لاتفاقية سايكس بيكو 1916.
مزاج نافر
في حين ينظر الدكتور صالح زامل لثورة العشرين من زاوية نظر مختلفة لا يوافقه عليها الكثير ممن يتعلق برومانسية الثورات، أولاً: كانت الثورة تحشيداً أكثر منه ثورة، وثانياً: أريد له ألا يستبدل الإسلام ممثلاً بدولة العثمانيين باحتلال الكفار، واحتلال الإسلام أهون عندهم. لكن الأمور كانت تسير بغير وجهة، دخل الاحتلال وكانت الدولة الحديثة التي هي نتيجة طبيعية لكل الاحتلالات البريطانية في الهند ومصر، كان بالثورة وبدونها يؤسس الاحتلال البريطاني دولة، والناظر لهذه الدولة التي أرادتها ثورة العشرين أنَّها لم تستطع أن تؤسّس بإرادة وطنية خالصة عندما وقف زعماؤها من الشيوخ عاجزين عن اختيار أحد العراقيين ملكاً لها، فكل منهم يطمع فيها، ولما تساوت الرؤوس استوجبت استدعاء ملك من خارج الحدود، لقد بدلت العشائر إسلاماً عثمانياً بإسلام عربي، وبحكم تحالف الإسلام الأخير مع البريطانيين خلق دولة، هذه الدولة كانت أكثر انفتاحاً، وتصدّى لإدارتها شمال وغرب ووسط العراق في البناء والتعليم فيما ظل الجنوب عازفاً عنها، وذلك واضح في إحصائيات التعليم والصحة والعمران وفي بناء الدولة والأحزاب السياسية التي تصدّت للوزارة، هناك بون شاسع يؤكّد تدنّي في الأعداد أو غياب لا يوازي الكثافة السكّانية في الجنوب، باستثناء البصرة لوضعها الخاص كونها مدينة شبه متروبولية، ولم يكن هذا الحال إلا امتداد لإهمال العثمانيين للعراق بشكل عام وللجنوب مادة الثورة بشكل خاص، فليس غريباً أن تجد هذه الواقعة بهذه الصورة، إذ لا يبتعد الوزراء والمدراء في هذه الدولة من بيئات الشمال إلى الفرات الأوسط أقصى حد، لقد كان هذا واقع الحال الذي أدامه الشيوخ ومراجع الدين في موقفهم المرتبك من الدولة الحديثة كل من مرجعيته التي غلبت في المحصلة مصالحها، لقد بنيت الدولة الحديثة وكان لها أن تستكمل بناء الدولة لو أمهلت زمناً طبيعياً بغض النظر عن مساوئ الحكّام، فالمزاج العراقي الثوري راح يستبدل مستبدّاً بمستبد، واليوم عن البارحة ليس ببعيد وهو يمنع تأسيس الدولة أو يشتّتها بالولاءات الخارجية أو المزاج النافر
منها.
صور مكرّرة
ويرى الدكتور محمد عطوان أن معظم الدراسات التاريخية التي نفخت في روح ثورة العشرين كان يقف وراءها هدف تكوين مخيال سردي عن دولة الأمة العراقية.. وكان يتم لها ذلك عبر تجميع نتف وشظايا متفرقة عن الوطن والوطنية العراقية. ولعل حدث ثورة العشرين واحد من هذه النتف والشظايا التي أسهمت في تكوين المخيال الشعبي عن الدولة، فلا يمكن لمتابع أن يتناول هذا التاريخ من دون المرور بمثل هذا الحدث... ولكن ما جرى في حينها لم يكن في حقيقته سوى تدافع داخلي بين أطراف محلية متعارضة مذهبياً، لم يكن همها سوى الصراع على الامتياز والنفوذ.. وإن الجدل الدائر بينها حول تحديد الموقف من جلاء المحتل لم يكن سوى جدل زائف.. والتضاغن الصادر عنها لم يكن سوى تضاغن داخلي أخذ طابعاً (مقاوماً) للمحتل تارة و(مقاطعاً) له تارة أخرى، فالوطنية والمقاومة التي يصدرها كل فريق سياسي كانت تتغذّى على قوّة حضور الضد النوعي الداخلي لها.. وإن القوات البريطانية في الواقع لم تكن قد خرجت من الأراضي العراقية بتأثير من تلك الثورة برغم ما بلغنا من أنبائها ووقائعها، إنّما خرجت [تلك القوّات] لأسباب كانت تخص ضعف ميزانية وزارة المستعمرات التي أثقلت كاهلها أعباءُ الحرب العظمى... لذلك فإن صورة الوطنية العراقية وشعاراتها المقاومة في الماضي خيرُ مصداقٍ لما هي عليه القوى السياسية اليوم بما تحاول رفعه من الشعارات عن جلاء المُحتل بصيغ وطنية شتى.