علوان السلمان
النص السردي.. اشتغال لغوي تتساوق في عوالمه البنائية عناصر الجمال وكوامن الوجد.. عبر كل حركات التجريب حتى المتوالية السردية التي شكلت شكلا من أشكال الحداثة بتحالفاتها والتحولات الفكرية والفنية والمؤثرات
الخارجية..
وهذا ما تسعى اليه المتوالية القصصية (غيمة عطر) التي أفرزت عوالمها ذهنية متفتحة على فضاءات معرفية نسجتها أنامل مبدعها الراحل حميد الربيعي، وأسهمت دار نينوى في نشرها وانتشارها /2019.. كونها تكشف عن مغامرة إبداعية ذات مضمون مشترك ثيمتها الأساس الإنسان وما يحيط به، فضلا عن انتمائها الى مناخ نفسي وبناء درامي زمكاني، يدخل في اطار التجريب الذي يبحث عميقا في المتخيل باشتغاله المتوالي على الغرائبية والعجائبية الممزوجة بالواقع.. بصفتها نزعة إنسانية قوامها ابتكار ما هو عجيب، متجاوز للمألوف لتحقيق ما لا يمكن تحقيقه باعتمادها روافد (دينية وتاريخية وأسطورية وتراثية تاريخية وسيرة شعبية)... فضلا عن اتخاذها منهج الاستقراء اللحظوي مع اعتماد التكثيف الدلالي والغوص في العمق التاريخي الذي يحكم ستراتيجية النص التي تجعل من المستهلك (المتلقي) مشاركا في تفعيله وإثراء دلالاته، لأنها تحمل من خصائص النثر الفني ومقوماته من رمزيات وصور جمالية مستفزة.. ابتداء من الأيقونة العنوانية والعلامة السيميائية الدالة بجملتها الأسمية المضافة التي فرشت روحها ما بين المنتِج والمنتَج (الجنس الأدبي) تحت ظلال غيمة بلون بني متدرج يمنح الشعور الاسترخائي والطمأنينة، ويعلن عن إشراقة أمل ويؤكد الثبات والإرادة، مع اشارة تجاوزت العنونة وتميزت بعمق المعنى وقوة الدلالة (بيوم آخر لا تستتر ولا تكتمل غيمة عطر في متاهة، متاهة ملا قنبر، إلا عند رواسي وسواحل، ستظهر في صباح اليوم العاشر ويراها آخرون حيث يتجمعون..)..ص5...
النص يكشف عن قاص متمكن من أدواته السردية، إذ البراعة في التصوير الفني بتوظيف الكنايات الدالة، والتقنيات الأسلوبية والفنية كتنقيط النص الصامت الدال على الحذف... (أبي العزيز..... أضناني التعب) ص14.. والتكرار الدال على الاهتمام، كما في تكرار لفظة (الصندوق) الذي شكل بؤرة النص في (يوم آخر).. فضلا عن أن المنتج (القاص) يحاول اقتناص اللحظة والمزاوجة بين الحلم والواقع لبناء تشكيل نص مشهدي قائم على الاختزال في الامتداد الزمني والتكثيف الجملي.. فضلا عن توظيفه الرمز ومشاهد التناص (مكوثهما في نار جهنم نعمة) ص12..
هذا يعني أن المنتج (القاص) ينسج نصه بتأمل ذاتي طغت عليه الأفكار التي تعبر عن عاطفة إنسانية تحتضن قيما وتقوم على صياغة مشبعة بحلميتها الحكائية.. فضلا عن محاولته استنطاق اللحظات الشعورية عبر نسق لغوي قادر على توليد المعاني من أجل توسيع الفضاء الدلالي للجملة السردية التي تميزت بعلامتين مضيئتين: اولهما البنية الدرامية.. وثانيهما اللغة المنطلقة من ضمير المتكلم (أنا).. (أفكر في ما سيفعله صباغ الأحذية حين يستيقظ ويجد عدته قد سرقها الابن عند انتصاف
الليل.)
هو يحبذ استعمال الضمير أنا، فأناته متسعة، ممتلئة، لكنه اعتاد أن يستعيض عن هذا الضمير بأن يضم قبضته على صدره دلالة الأحادية، ذاك أن ما عداها طري يانع، بينما هو الجذر الذي يرفع الهامات ويعلي المراتب.. البنت هي الأخرى لا تعرف الفعل، تنتظر الكلام ليقع الحدث أمامها متجسدا او متخيلا، باعتبار القول يحمل مطرقة، لها ايقاع خاص يتناغم مع ذاتها، قناعتها الشخصية التي تكونت بمرور الأيام وهي تسمع الحكايات مع أكواب الشاي والصوبة وتجمع الأسرة في الليالي الطويلة..) ص25..
النص يتأثث من تلاحق الصور القابضة على لحظة الانفعال التي يخلقها المنتج (القاص) مما يمكنه الانفتاح على تقنيات السرد البصري الذي يتطلب حضور المكان البؤرة الثقافية الحاضنة للفعل، مع توظيف الكناية والاستعارة اللفظية المفضية على النص عمقا فكريا وبعدا جماليا ينبثق من موقف انفعالي يتكئ على حقول دلالية وزمكانية وأحداث وشخوص وحوارات (ذاتية ومونولوجية(..
فالقاص الراحل حميد الربيعي كان يوظف أبعاد المكان والزمان والحدث لينتج نصا يحمل الإثارة والتشويق عبر مشاهده السيمية المتوالية.. فضلا عن تمكنه من زحزحة البنية التقليدية للسرد الواقعي باتجاه تخليق المعادل الغرائبي المتخيل لحراك الواقع..
فائدة:ـ يعد الناقد جاسم عاصي أول من نظّر لـ (المتوالية القصصية) واتبعه بتطبيق إجرائي بقصتين أولهما (الشروع) التي نشرها في مجلة الأقلام العدد السابع 1996.. تبعها بنشر نص آخر حمل عنوان (اليقظة) في العدد الثاني لعام 1999.. وفي المجلة ذاتها مذيلا لها بهامش (هذه القصة الثانية من متوالية قصصية بعنوان (مستعمرة
المياه).