{دار الشؤون الثقافيَّة}: الاستجابة لنداءات ثقافة المستقبل

ثقافة 2020/07/05
...

 د. رياض موسى سكران
لا يمكن التغاضي عن حجم وأهمية المشروع الثقافي الذي بشرت به (وزارة الثقافة) في العراق بعد التغيير, وحفرت تضاريسه ورسمت خطوط خارطته عن طريق مجمل برامجها الثقافية المتمثلة بأعمال دوائرها المتعددة والمختلفة، وهي تفتح الطرق المغلقة وتزيح الحواجز، لتحتفي بتحليق منجز المثقف العراقي في فضاء حر ومفتوح.
مفصل حيوي
وشكلت (دار الشؤون الثقافية) مفصلاً حيوياً في هذه الوزارة, عبر عديد أنشطتها وإصداراتها المتمثلة بسلاسل الكتب المتنوعة المضامين والمتعددة الاتجاهات, أو مجلاتها الدورية المختلفة, وكانت علامة فاعلة في تشكيل ملامح وجه الثقافة العراقية, فضلاً عن ندواتها وحلقاتها الدراسية التي حققت من خلالها فعلاً ثقافياً مغايراً لكل مخرجات منطق ثقافة نسق الاستبداد الذي كان سائداً ولم ينتج طوال عقود سوى خطاب أحادي تعبوي مؤدلج, ظل جاثماً لعقودٍ طويلة على رئة الثقافة العراقيَّة.
ومع أنَّ المثقف العراقي كان على طول تلك العقود, ينوء بأعباء وهموم الحياة اليوميَّة, إلا أنَّه كان يعيش قلق التجربة المؤجلة وهواجس الإبداع المكبوتة وفرحة الإنجاز المنتظرة, وعندما جاءت اللحظة التي انقدحت فيها أول شرارة للانطلاق في ميدان الإبداع الحر, حتى فتحت (دار الشؤون الثقافية العامة) أبوابها ونوافذها مشرعة للهواء والضوء, لتتنفس من خلالها رئة الثقافة العراقيَّة هواءً جديداً في فضاء مضيء جديد, يطل المثقف من خلاله على الوجود الموعود بآفاق الحلم والأمل, المحكوم بالقلق والهواجس والترقب وانتظار القادم..
 
ستراتيجيَّة ثقافيَّة
فكانت (دار الشؤون الثقافية العامة) واحدة من عديد الخيارات التي راهنت عليها الدولة في فلسفتها ما بعد التغيير في بناء ورسم ستراتيجيَّة ثقافية قائمة على إعادة بناء الإنسان عبر بناء المنظومة الواسعة للثقافة, مثلما راهن المثقف العراقي على الهدف ذاته, فكان الرهان مزدوجاً, وكان رهاناً 
فائزاً، إذ استطاعت هذه الدار أن تسجل حضوراً لافتاً في المشهد الثقافي العراقي الجديد، وتتوالى السنوات وهي تحقق ما جاءت من أجله وما رسمت له, في أنْ يكون المثقف العراقي شريكاً لهذه الدار في رسم وتبني وتنفيذ خطط ومشاريع هذه الدار التي انفتحت على كامل المشهد البانورامي للإبداع العراقي الجديد, وعلى مجمل الاتجاهات الفكريَّة والآيديولوجيَّة, وتستقبل جميع المثقفين بحفاوة, فكانت قاعات وغرف ومكاتب الدار ملتقى لكل المثقفين والأدباء والأكاديميين من كل الجامعات العراقية, ومن مختلف الأجيال، ومن جميع المحافظات, ومن شتى أقانيم المعرفة, ومن كل حقول الإبداع, يلتقون في حوار للرؤى وتلاقح للأفكار وجدل للمعرفة وبوح للمواقف, والكل يفكر بصوت عالٍ وجرأة وحرية، والدار ترصد وتتابع وتحقق في كل هذا وتدخله في مختبرها الذي تنصهر فيه المواقف وتتفاعل معه الرؤى, لتنتج خطاباً جمالياً يحمل عمقه وصدق انتمائه، وهي تقف عند كل ما أنجزه المثقف العراقي، مصرة على أنْ تستقطبَ الجميع في هذا الفضاء المفتوح للإبداع الحر، بلا عقد ولا استثناء ولا إقصاء ولا وصاية ولا تهميش, فكل مثقف ومبدع عراقي وجد لنفسه مساحة ومكاناً في فضاء (دار الشؤون الثقافية) التي تحولت الى منتدى للحوار الفكري والثقافي الذي تجاوز حدود أهداف وفلسفة الدار نحو بناء أسس وترسيخ مفاهيم جديدة على وسطنا الثقافي العراقي, ليمتد الى حوار عميق ينفتح على كل حقول الإبداع وفضاءات المعرفة ومساحات الفكر 
وتجليات الرؤى, ليعبر كل مثقف ومبدع, من خلال هذا الفضاء, عن ذاته, ويبوح بأفكاره, ويصدح بصوته, ويطلق رؤاه الجماليَّة والإبداعيَّة..
 
(حفل توقيع)
إزاء هذه المعطيات نتوقف باحترام وثقة مع ما سعت هذه الدار لترسيخه وتبنيه والتأكيد عليه وهي ترسم ملامح صورة المثقف العراقي بخطوط بارزة وواضحة, وتأكيد دوره الفاعل في حركية المشهد الثقافي الجديد، عبر مجمل ما قدمته وتقدمه للمثقف
العراقي..
وهنا نتوقف أمام تقليد من بين أهم التقاليد التي سعت هذه الدار دار لتدشينها وترسيخها وتكريسها في المشهد الثقافي العراقي, هي عملية الترويج للكاتب ونتاجه عبر (حفل توقيع), إذ قدمت الدار للجمهور من خلال هذا التقليد مجموعة من ألمع الأسماء المؤثرة في رسم خارطة الثقافة العراقية, إلى جانب عددٍ كبيرٍ من الكتاب الشباب, وهي تفتح فرصة ترويجيَّة للكاتب وكتابه عبر هذا الحفل الذي يدعى لحضوره عددٌ كبيرٌ من المثقفين والأكاديميين والمبدعين, فضلاً عن الحضور الإعلامي المتميز الذي ينقل وقائع حفل التوقيع والشهادات التي تقدم خلال الاحتفاء بهذا المبدع أو ذاك, ليس في البرامج الثقافية فحسب وإنما في نشرات الأخبار الرئيسة أيضا..
ولا يمكن أنْ ينسى المثقف العراقي ذلك الحدث الثقافي الذي أقامته الدار, وهو الأبرز والأكبر بين كل الأحداث الثقافية في العراق, وهو معرض بغداد الدولي للكتاب, الذي كان ملحمة ثقافية تليق بمكانة بغداد عاصمة الثقافة العربية, حيث ترافق انعقاده خلال تلك المناسبة..
هذا ما توقفت عنده (الدار) وهي تسير في دروب غير ممهدة وتلج مسالك غير معهودة, لتستوعب كل قلق التجارب المؤجلة وهواجس الإبداع المكبوتة, بكل ما تحمله من آلام وآمال وهموم ومسرات وأوجاع وتطلعات وأحلام وأمنيات, مع أنَّ هذا الطريق الذي اختارت (الدار) أنْ تسير فيه، لم يكن أبداً معبداً بالورود, لكنها كانت تراهن بثقة عالية على الآتي, ولم تضع في حساباتها سوى النجاح, فهيأت له كل أسباب وعوامل 
تحقيقه.. 
وهذا ما ينبغي أن تتواصل (دار الشؤون الثقافية) في إنجازه وتبنيه وتحقيقه, وإنْ تباينت أو اختلفت بدرجة ما نسبة تحقيق هذه الأهداف بحسب مقدرة وإمكانات وثقافة كل مسؤول تولى إدارة هذه الدار على تحقيق هذه الأهداف وتلك الفلسفة, وذلك مرتبط بمستوى حضوره وتفاعله في الوسط الثقافي، ويبقى التاريخ شاهداً وفيصلاً على كل ما تحقق في هذه الدار التي تمثل القلب النابض للحياة الثقافية العراقية, لأنها على تماس واحتكاك مباشر مع المثقف العراقي ومشروعه الإبداعي, وهي الأقدر على تمثل واستيعاب وتلبية غاياته وتحقيق رغباته, بعد بلورتها في إطار ستراتيجية ثقافية 
تقتضيها طبيعة تطور ثقافة العصر وأولويات المرحلة.
 
فضاء واسع للبوح
لقد كانت المسافة بين الدار والمثقف العراقي, ملأى بالخطوات الخضر ورفيف الأحلام, بعد أن راح كل مثقف عراقي يجد لنفسه في (دار الشؤون الثقافية) فضاءاً واسعاً للبوح, ونافذة مفتوحة على الحياة وأنماط إعادة إنتاجها شعراً وقصة ورواية ومسرحاً وتشكيلاً وقراءة نقدية، فالواقع المتحقق يكشف عن حقيقة أنَّ هذه الدار صارت الذاكرة الأخصب والمختبر الأهم الذي احتضن المشروع الثقافي الذي تفاعل فيه ومعه كل مثقف عراقي, ومثل هذا المستوى وهذا الحجم من الإنجاز بحاجة الى دعم سخي من قبل الدولة, يوازي حجم الأثر والإنجاز المتحقق في بناء منظومة ثقافية يتفاعل فيها ومعها المثقف ضمن بيئة مخطط لها تخطيطاً يتفق مع فلسفة بناء 
الدولة.
هذا ما ينبغي أن تسعى (الدار) للتأكيد عليه وتعمل على ترسيخه والبوح به بصوتٍ عالٍ, وتتبنى الانفتاح على الجميع منهجاً ورؤية وبرنامج عمل, لتتواصل بذلك رسالتها في الوفاء لكل الأجيال والأسماء والتجارب والرؤى, بعيداً عن عقد التصنيفات والتقسيمات والتبويبات بكل أنواعها، بعد أنْ فتحت أبوابها لتستقبل الجميع والجميع يتوجه إليها، وهي تحتضن الجميع ضمن مشروعاتها الثقافية الوطنية المتعددة، وهي تنأى بقصدية وإصرار عن كل ما هو تقليدي ونمطي وسائد ومكرور، ولا تضع في حساباتها إلا الشرط الذي يتفق الجميع في السعي إليه والعمل على تحقيقه, وهو شرط الإبداع أولاً وأخيراً, فقد جاءت (دار الشؤون الثقافية) لتعلن عن رغبتها في تلبية نداءات ثقافة المستقبل, التي نؤثث من خلال مخرجاتها, فضاءات ثقافة حرة 
فاعلة..