شكلّتْ طريقة حكم وإدارة المحافظات العراقية بما فيها العاصمة (بغداد) وفق أسلوب الإدارة اللامركزية وانتخاب مجالسها وحكوماتها المحلية مباشرةً من قبل سُكان تلك المحافظات (عبر انتخابات مجالس المحافظات المنفصلة عن الانتخابات النيابية العامة).. شكلّتْ واحداً من ملامح صورة العراق الجديد الذي حاول النظام السياسي الذي نشأ وتكوّن بعد العام 2003 أن يرسم تلك الصورة بمكونات وإطار جديد، خاصةً وأنَّ عملية هدم البناء الدكتاتوري القديم، ومحاولة بناء النظام الديمقراطي الناشئ، لم تكن حدثاً عابراً في حياة المجتمع العراقي؛ بل كانتْ منعطفاً تاريخياً صعباً أتى على كامل بنية الدولة العراقية الحديثة التي سبق لها أن تشكلّتْ في ظل الاستعمار البريطاني العام 1921، وشَهدَ، هذا المنعطف، في الوقت نفسه، محاولة بناء دولة جديدة على أنقاض تلك الدولة بمراحلها وحقبها التاريخية المتعددة.
وما زلنا بعد مرور 18 عاماً عقب ذلك المنعطف التاريخي نشهدُ تبعات وإفرازات وتداعيات أسلوب إدارة مجالس وحكومات المحافظات، وفي المحصلة النهائية العامة خرجتْ تلك التجربة بخيبة أمل كبيرة وفشل ذريع في إدارة ملفات نواحي الحياة العامة لمجتمعات تلك المحافظات مع التباين والتفاوت في نسب تلك الخيبة، وذلك الفشل الاداري تبعاً لعدد المحافظات نفسها وتمايزها من حيث بعض الخصائص والسمات، قبل أنْ يُصدر مجلس النواب في نهاية العام الماضي قرارَهُ بإلغاء مجالس المحافظات تحت ضغط الانتفاضة الشعبية والحركات الاحتجاجية التي اندلعتْ في الأول من تشرين الاول العام 2019 في بغداد ومحافظات الوسط والجنوب .وكان ملف الثقافة بتوصيفها العام والشامل أكثر القطاعات تضرراً، وكان لذلك الملف النصيب الأكبر من غياب التخطيط والإدارة والإنجاز، وعشوائية التعاطي مع المنجز الثقافي، وضعف التفاعل والتواصل ومزاجيته مع نواحي ومجالات الفعل الثقافي بجميع أنواعه وصنوفه.
إنَّ موضوعة (الثقافة) بمفهومها العام وخصوصية توجهها مع الأخذ بنظر الاعتبار الطبيعة السسيو - ثقافية لتلك المحافظات على مستوى الفرد والجماعات، أصبحتْ موضوعة شائكة ومعقدة تثير الاسئلة الثقافية المتوالية بوجه تلك الإشكالية القائمة بين الحكومات المحلية والحياة الثقافية العامة التي تشهدها تلك المحافظات، خاصةً في ظل النتائج المخيبة للآمال التي جاءتْ بها التجربة الطويلة من حكم الحكومات المحلية والتي يُفترض أنْ تكون قريبةً إلى نبض الشارع الثقافي المتدفق. وبهذه الصيغة الأخيرة تتجسَّدُ الإشكالية الثقافية التي تعاني منها المحافظات ففي جانبٍ تنشطُ الحياة الثقافية العامة الفاعلة بإنجازات وأسماء مثقفيها وأدبائها وكُتّابها، وفي الجانب الآخر من الإشكالية تظهر فيه الحكومات المحلية مُصابة بالشلل التام، أو العجز الكلي في الاستجابة لمعطيات تلك الثقافة والتجاوب والتفاعل معها، ومن هنا تنبثق طبيعة العلاقة الضرورية المفترضة التي يجب أن تكون عليها بين الحكومة المحلية ومثقفيها، وما ينبغي أن تقدمهُ تلك الحكومات من رعاية للثقافة في محافظاتها والعناية بها والعمل على النهوض بها والاستعانة برموز الثقافة ووجوهها وإشراكهم في رسم ملامح جديدة لوجه تلك المحافظات في ظل طرح وإشاعة مفهوم (العراق الجديد) الذي طُرِحَ بعد زوال النظام الدكتاتوري العام 2003. وازاء هذا الوضع الشائك وفي ظل الإدارة الذاتية لتلك المحافظات لمجتمعاتها، هل يحّقُ لنا أن نتساءل عن المحصلة الثقافية التي خلصتْ اليها تلك الحكومات ومجالسها بعد 18 عاماً من عمرها في هذه المرحلة التاريخية. وفي صلب الطرح المهني لمفهوم الثقافة نتساءل هل نشطتْ وبرزتْ لجنة ثقافية في مجالس وحكومات تلك المحافظات؟ ومَنْ هُم أبرز أعضائها العاملين؟ وما هي حدود وطبيعة علاقتهم بالثقافة والعمل الثقافي؟ هل استشاروا مثقفاً في عملهم؟ هل عمدوا الى تشكيل هيئة استشارية ثقافية فاعلة؟ هل فتحوا أبواب الحوار مع مثقفيهم؟ وهل عملتْ تلك اللجان على إقناع حكوماتهم المحلية على تبني مشاريع الثقافة والمثقفين وتجسيدها على أرض الواقع كمنجزات مادية .
يتوجبُ - والحال هذه بكل النتائج والملابسات - على المؤسسات الثقافية بجميع مُسمَّياتها وعناوينها وعلى رأسها فروع اتحاد الأدباء والكُتّاب ونقابات الفنانين والعديد من المنظمات والاتحادات والجمعيات الثقافية ومنظمات المجتمع المدني الناشطة في المحافظات، ان تبدأ ممارسة فعلها الثقافي الفاعل والمؤثر، وتمارس، كذلك، ضغوطها النوعية على المُحافظِين ومعاونيهم الإداريين الذين أُوكلت اليهم إدارة شؤون محافظاتهم (بعد إلغاء مجالس المحافظات) من أجل حثهم على تبني التفكير، والفعل الثقافي، الذي يقود إلى الإنجاز النوعي الملموس، ومن ثم تعزيزهِ بأنشطة وفعاليات ثقافية عامة تعيد للفعل الثقافي النخبوي التقليدي جماهيريتَهُ الواسعة وشعبيتَهُ المؤثرة، بدلاً من انتظار إتخاذ مثل هذه المبادرة أو الحراك الثقافي من (أصحاب القرار الإداري والتنظيمي) أنفسهم، فقد طالَ انتظار مثل هذا الموقف على مدى السنوات الطويلة الماضية وأثبتتْ التجربة عدم جدوى مثل هذا
الانتظار.