تحوّلاتُ كوفيد

ثقافة 2020/07/06
...

 
حسن ناظم
 
 
في 26 حزيران الماضي، كشفَتْ نتيجةُ فحص مسحة كورونا أني مُصابٌ بكوفيد. فذهبتُ إلى حجرِ النفسِ وتسلّحتُ بما يلزم في مواجهة فايروس كورونا.
في 5 نيسان الماضي، كتبتُ مقالة عن فايروس كورونا عنوانها "المذلّة الرابعة لنرجسية الإنسان"، تكلمت فيها عن غرور البشر والجروح النرجسية الكبرى التي يلهج بها الفلاسفةُ والمفكرون مع نظريات كوبرنيقوس وداروين وفرويد، وعن الجرح الرابع فايروس كورونا الذي حظر النشاط البشري المعتاد، وجعلنا أمام أكبر تحدٍّ اقتصادي واجتماعي لم نعهد مثله من قبل. وقد طالبتُ في تلك المقالة بأن نتصالح مع الكورونية لنتعافى منها، وها أنا في 26 حزيران 2020 أصابُ بكوفيد وأتعافى منه. دخل الفايروس جسدي، وبدأ الإعياء والصداع وفقدان الشهية، وبدأ الجرح النرجسي الرابع يتبدّى على كياني كلّه. كم كمّمتُ فمي وأنفي، لكن الوعد يجب إنجازُهُ، وعد المذلّة. وكم أحطتُ يدي بقفّازات واقية، وكم غسلتُ يديّ وطهّرتُها بالمطهرات، لكن الوعد يجب إنجازُهُ، وعد الجرح. وكم احتفظتُ بمسافة اجتماعية وعزلة فردية وخشية مصيرية، لكن الوعد يجب إنجازُهُ، وعد التجربة.
قال لي الطبيب، مع الفيتامينات، سي و دي والزنك، هناك فيتامين أهمّ: هو الشجاعة. وطفقتُ أراقب شجاعتي في المعركة، فقد كان الهجوم متواصلاً ليلاً ونهاراً، استمرّ أربعة أيام بلياليها، أعيا أحدنا الآخر، فعُقدت اتفاقية مع الفايروس، هي هدنة نهارية، صار النهار راحة بعض الشيء، وما أن يُرخي الليلُ سدولَهُ حتى تبدأ المعركة من جديد. تذكرتُ قصيدة المتنبي في الحمّى:
وزائرتي كأنّ بها حياءً  فليس تزورُ إلاّ في الظلامِ
أنهكني الفايروس وأنهكتُهُ، كلانا شهد تحوّلات، هو تحوّلات كوفيد وأنا تحوّلات أوفيد، كلانا أعاد النظر في أساطيرِهِ، ورموزه، كلانا مرّ بنوع من السكينة الزائفة، كلانا انتفض ضدّ الآخر، كلانا محتدمٌ، وثائرٌ، يائسٌ، ومثابرٌ، كنتُ أسمعُهُ فيّ، وأشعر أنّه يسمعني، كوفيد وأوفيد، نلعبُ معاً، على مقربةٍ وبتلامسٍ خشنٍ. لكنه أخيراً، وبعد أيام، سكن فشعرتُ بسكونه واختفائه. لقد انتهى صراعُ المرئي واللامرئي.
منذ "مولد العيادة"، علّمنا فوكو أنّ المريضَ المحجورَ لا ينعزل في علاجه عن هويته الشخصية، ولم تعد سلطةُ الطبيب مطلقةً عليه، فالمريض لم يعد يُطيق جوّ الألغاز الطبية التي يُحيطُ الطبيبُ بها نفسَه، ونشهد مع تفشّي كورونا انحلالاً للألغاز، وظهوراً للهويات الشخصية في المجتمعات. حتى الفرد المريض صار يختار بيتَهُ محجراً، ومعتقداتِهِ علاجاً، فتترافقُ الأدوية والتعاويذ، والوصفات الطبية والأدعية. وتلك مسافة أخرى غير المسافة الاجتماعية التي تقتضيها شراسة الفايروس، إنها المسافة بين المريض وطبيبه هذه المرة، المسافةُ التي تؤسس تحولات كوفيد في قرننا المهووس هذا، وهي المسافة التي تناشد أوفيد أن يعيد التفكير في أساطيره التأسيسية، وأن يُعيدَ تعريفَ عجرفتِهِ وعنجهيتِهِ.
الأمراضُ أعراضٌ، والأعراضُ علاماتٌ، والعلاماتُ لا تقول الشيء نفسَهُ دائماً، إنها تتبدّى لنا، فنراها بعيون مختلفة، نراها مرة تهديداً مرعباً، ومرةً امتحاناً يعزّز فينا العزمَ والقوة. في الأولى يُضعفنا ويفتك بنا، وفي الثانية يرمّمُ صدوعَنا ليُحيينا. بنفسي قرأتُ هذه العلامات برؤيةٍ أوفيدية، فصار أوفيد يقرأ كوفيد، ويفكّ شفراتِهِ بلا رؤية طبية أسرارية، ولا رؤيا أرواحية، لأنّ كوفيد لا علاج له، غير أن تقرأه فتهضمه وتتمثّله، وقد كان. فها قد عادت الشهيّةُ، وتلاشى الصداعُ، وانحلّ النحولُ، وتبدّد الإعياءُ، غير أنّ كوفيد انطبع في ذاكرة أوفيد جرحاً، وفي خلاياه شفرةً، وفي سجلّ تاريخه نزيلاً، فبات معروفاً بعد الجهل، ومكشوفاً بعد الاستتار، والدرسُ فيه أنّ الإنسان أقوى من جروحِهِ، وأنّ ضعفَهُ مَثابةٌ لقوّتِهِ، وأنّ سقوطَهُ تأسيسٌ لقيامتِهِ.