لقراءة رواية (طفولة جبل) الصادرة عن دار الشؤون الثقافية العامة للروائي أمجد توفيق، علينا أن نتوجه صوب العنوان للاستدلال على وقائعه السردية وربط ما بينها من وشائج بغية الوصول لمفتاحها التأويلي كما يورده جيرار جينيت نقلا عن امبرتو ايكو من أن هناك قراءة للرسالة المضمرة في العنوان قبل أي شيء، فذلك يستدعينا الى تجزئتها ومن ثم فإن مفردة (طفولة) لو أردنا تفعيل معانيها لأبقتنا حبيسي جملة تصورات منها البراءة واللعب والملائكية وقصور الرؤية وعدة رمزيات من بينها البداية والمستقبل والنظرة الآنية، إلا أننا لا يمكننا إقناع بصيرتنا في أن تلك الصفات والمرموزات يمكن أن يتبناها ذلك الدال الكبير الذي يطلق عليه لفظة (جبل) ولكن يمكن أن نتقبله مجازيا إن قمنا بأنسنته وفقا لما تقتضيه الرؤية الأدبية، ولكننا في هذه الحالة ايضا لم نصل بعد لما توحيه دالة النص العنواني بما يخدم الروي، فالجبل هو الصبي (بارق) الشخصية المحورية الأساس وبطل الرواية الأوحد الذي لا يمكن تشبيهه إلا بالجبل؛ فهو على الرغم من صغر سنه كان يتمتع بصفات لا يمكن أن تتوفر لدى الكبار.
وقد قدمه الراوي إلينا محاكيا للطبيعة شاعرا بها متألما لانتهاكاتها، له القدرة على الأحساس بالجمال وله نظرته الخاصة للناس بدءا بتعامله مع المجنونة وتقربه منها ومن شجرتها وعصافيرها الى طبيعة علاقته بأهله وإدراكه لخصوصية ارتباطه بأخيه، ومن ثم قراره عندما أصبح فتيا الاختلاء بنفسه والابتعاد عن أهله رغبة في اكتساب الخبرة والتعلم، إلّا أن ما جعلنا نتوهم الطفولة للجبل، فتلك كانت لعبة الروائي التي أوهمنا بها من خلال جعله للجبل أحد شخوص الرواية، فهو يولد كل يوم وهو متخم بماء الندى، والراوي يُسائلنا كيف يفكر الجبل؟
وما الذي يمنحه الانتماء؟ وتلك تساؤلات تضفي على النص مسحة من التأمل والانبهار، إن تماهينا مع فلسفتها وطريقة الكاتب في طرحها بأسلوب رومانتيكي فلسفي، ومن ثم قام بتقليد الجبل مقاليد الراوي المشارك للراوي العليم، وذلك ندركه عندما نكمل قراءتنا لرحلة الروي، واظن أن تلك طريقته فقد جعل من الزمن في روايته (الساخر العظيم) أحد الشخوص البارزين الذين كانوا يشاركون الروي ويدلون بآرائهم وأحكامهم.
بداية علينا أن نتعامل مع الجبل كدال أساسي بعدما أشرنا إليه من أهمية تفاعله مع البطل؛ ذلك التفاعل الذي يصل حد أن جعله مُعلما له تعلم منه أن الصدق الذي يرغمه الخوف عليه غير الصدق النابع من القلب، وتلك كانت أولى المفاهيم التي تلتها مفاهيم القدرة على السخرية والقدرة على الأسى وعلاقة اللغة بالحواس والكثير الكثير الذي يوصله في النهاية الى أن الخبرة مهمومة بالتفسير والتكرار.. وإنها تطعن أعمق ما في الجبل، قدرته على النسيان التي تؤهله للاستمتاع بأي فعل، وهنا علينا كقراء لهذا الفكر عكس مصادر القوة فيكون الإنسان المتمثل بالطفل بارق فاعلا، والجبل متلقيا بعدما أصبح الجبل أحاديا بفعل النسيان وليس رمزا للهم المعرفي، وهذا يثبت ضمنا أن نزوع بارق نحو الكوخ في حقل أبيه كان نتيجة عدم اكتمالية الإدراك الفلسفي المعد سلفا في ذهنه، ذلك أن طبيعة علاقته بالجبل توحي له أن عليه أن يفهم الكثير وألا يتحرك ضمن دائرة التمني التي لم تتحقق على المستوى المتخيل في مهابة الجبل
وجموحه.
يبدأ قرار العزلة الذي اتخذه بارق بذهابه للكوخ حاملا معه لوازم قليلة كان من ضمنها كتبا ضمت دون كيخوته، ملحمة كلكامش، تاريخ العراق القديم، هكذا تكلم زرادشت، ألف ليلة وليلة، ديوان طرفة بن العبد ولايخفى عند مطالعة هذه المجموعة من الكتب ما نجده من خيط رابط يجمعها يمكن أن تمثله مقولة ديكارت المشهورة (أنا أفكر إذن أنا موجود) هي كتب أغلبها يدعو للتفكير على اعتبار أن الوعي والعقل هو أساس الوجود؛ فرواية دون كيخوته استطاعت أن تحدث نقلة في الفكر التنويري الأوربي في القرن السابع عشر، أما ملحمة كلكامش فلا تخفى أسطورة بحثها عن الخلود، وباقي الكتب التي انتقاها الروائي عن قصد مؤداه أن رحلة المعرفة لا يغذيها إلا نسغ الفكر الذي يتواجد في الكتب، وفي اشتغال كهذا يجب أن يكون انتخاب
الكتب يصب في خدمة النص الروائي وطبيعته.