أستطيعُ القولَ إن أكثرَ ما قرأتهُ من الشعر الصوفي هو شعر يحتفي بالقيم الصوفية ومنازلها ومراتبها، وأعيدُ صياغةَ الفكرة: لي أن أرى أن المدونةَ الشعرية التي أنتجها المتصوفة، كانت في أغلبِها قوالبَ وضع فيها هؤلاء الكتبةُ الواعونَ أفكارَهم الدينية والوجودية ورؤيتهم للحياة والله والانسان، وبهذا كانوا مقتنعين بل من ضمن خطتِهم المحسوب لها بدقةٍ أن يقدموا أنموذجاً مغايراً لتقاليد الشعر، هو أنموذج لا يقف بالضدّ ولا يتماهى مع السائدِ، ربما يقف مجاوراً للأثر الشعري، أقلَّ منه إثارةً وأقلّ منه طرقاً للمواضيع مكتفياً بعوالمه هو، وقد ينماز بعضٌ من هذا الشعر بتمرّدِه على اللغة أو الإفادة من اللعب في ضمائرها وهذا كثيرٌ في التصرف لكنه قليل في الإبداع.
قلتُ مرةً للشاعر عبد القادر الحصني: إني لا أعدُّ الشعر الصوفي شعراً عظيماً وقد أعدُّ أكثرَهُ نظماً، وكنتُ متوجساً من قولي هذا لأن الرجل خصص جزءاً كبيراً من ثقافته الواسعة لدراسة الشعر الصوفي، فقال لي يا مهدي: أنا معك في رأيك على أن تستثني ابنَ الفارض، فقلت له أردتُ أن أستثنيَهُ قبيلَ إتمام كلامي، وفرحتُ أنك أيدتني في الفكرة.
ليس قصوراً في خيال المتصوف كالحلاج مثلاً، ألا يتألق كأبي تمام والمتنبي، لكنه اختط لنفسه نمطاً من التفكير فرض عليه اقتراحَ شكل من الشعر جعلَهُ جداريةً لفلسفته أو حقيبةً لاحتمال ملخصات أفكارهِ وتصوراته ورؤاه، ولا أريد القول إن قدراتِه الشعرية كانت تُمكّنُه من اصطياد وعول الشعر وصقوره التي اصطادَها الشعراءُ الكبارُ، ثم زهدَ هو في ذلك، لا.
لكن أردت تأكيد أن الشاعر الصوفي حمّال فكرة أراد الحفاظ عليها وصيانتها فاختار لها شكلاً من الأشكال الأدبية أقربَ إلى البقاء في الأذهان وهو شكل الشعر.
طبعا لم يجرده من المشاكلة والروح العربية المعهودة، لأنه يعيش في هذا المحيط، لذلك نجد كثيراً من المتصوفة مالوا إلى (شكل) الغزل العذري، بل رأى بعضُهم في الغزَل العذريّ أُسَّاً متيناً للشعر الصوفي ووعاءً صالحاً ومناسباً لاحتواء غاياته ودلالاته وتعبيراته، وراح كثيرٌ منهم يستعينُ بالخمريات ملقِياً على أكتافها حمولتَه الفكرية التي دارت عليها أفكار المتصوفة.
مع هذا كله لم يُفلتْ من أسر النظم من جهة ومحددات الخيال من جهة أخرى إلا قلةٌ نادرةٌ في رأيي، أضع ابن الفارض في مقدمتهم، مع أني قرأت في ديوانه نظماً كثيراً لا علاقة وثيقة له بالشعر إلا من جهة الشكل.
قيصر أبو طبيخ في ديوانه (وحدك وحدك) أحد الناجين بجدارة من هذا المطبِّ الخطير، وأحد العابرين المفازةَ وفي يده ماءٌ كثيرٌ رغم جفاف المسافة، بل هو أحد المتفردين الذين أولدوا حجرَ التصوف البارد شرارةَ الشعر، ولا أقول إنه سارق النار بل موجدها ومنتجها ومثيرُ شعلتها الكامنة، فكتاب قيصر أبو طبيخ يمثل واحدة من الحالات الشكلية الجديدة للشعرية العراقية في السنوات الأخيرة، من مداخل عديدة منها:
1- كتاب شعري تلبَّسَ أزياءَ اللغة الصوفية بجبة لم تبلَ ولم توضع على جسد من قبلُ، بغير تقليد ولا مجاراة، وكأنه يتراءى لي شاعراً يُهددُ لغته كما يُهددُ الفلاح العراقي نخلته فلا سبيل أمامها إلا أن تنجب في السنة المقبلة، وهو أجبر لغته أن تأتي بتمر الإبداع انزياحاً ومجازاً، وفكراً لم يتخلَّ في كل سطر عن بهجة الشعر.
2- أعجبَ الشاعرَ أن يُلزِمَ نفسه بشكل بعينه في كل الكتاب، فكان شكل الأبيات الثلاثة خياراً مقدّراً على الكتاب من أوله إلى آخره، وهو وَسَمَ كتابَه ـ على الغلاف ـ بعنوان ثانوي (ثلاثيات)، وقد يكون له قصد في اختيار هذا العدد لما له من أبعاد ومعانٍ لعلَّ للكنيسة والثالوث العباديّ الذينِ ذكرهما في أثناءِ الكتاب أثراً لذلك.
3- يكتفي قارئُ هذا الكتاب بكل صفحة منه بمفردها، فلا يحتاجُ إلى قلب الصفحة لأن الشاعر أودعَ في كل صفحة فكرةً كاملةً من الشعر الصافي.
4- هذا الكتاب يمثل للشاعر مرحلة أهم من كل الكتب التي أصدرها الشعراء تأثيراً بحيواتهم، أعني أنه أصدر كتابه الأول بعد أن عبر محطة الأربعين من عمره، ولا أريد أن أشير إلى فكرة أن المتصوفة يرون أن الوحي لم ينقطع عمن أراد أن يُوحَى إليه وهيأ للوحي أعماقه، ويرون أن نبوة النبي محمد (ص) كانت عالمية موضوعية خارجية لكنها ليست الأخيرة، وإنّ لهم نبواتٍ أيضاً لكنها نبوات خاصة ذاتية تخص الفرد وحده، وفي الخلط بين علاقة عمر الأربعين بالنبوة وفكرة المتصوفة هذه نستطيع أن نتوقع أن قيصراً قصد من وراء إصداره هذا الكتاب فكرةً يعدل بها عن الشعر ـ وهو فنّ ـ إلى الفكر أو الاندماج مع الذات وتمثل نوازعها صدَّاً وتقبلاً بشكل واقعي فعلي صيغ بالشعر في شكله النهائي.
لقيصر المباركة الكثيرة من صديق أحبه بعد أن تعرفه قبل أكثر من عقد من السنوات، وأثاره شعره الخاص وأسلوبه الخاص وتذوقه الخاص للفكر والشعر واللغة
والحياة.