كيف موّلت المخابرات الأميركية الفنّ العربي سرًّا لمواجهة الشيوعيَّة

ثقافة 2020/07/11
...

سلطان سعود القاسمي  ترجمة: جمال جمعة
 
بعد انهيار الاتحاد السوفيتي في العام 1991، بدأت التفاصيل في الظهور عن الدور الخفي لوكالة المخابرات المركزية في استخدام الفن كأداة لتحقيق غايات سياسية خلال الحرب الباردة. بدأت السياسة المعروفة باسم "الرَّسَن الطويل" بعرض إبداع الفنانين الأميركيين مثل جاكسون بولوك، وروبرت ماذرويل، ومارك روثكو في مواجهة القيود الفنية السوفيتية "الصارمة".
أرادت حكومة الولايات المتحدة استخدام القوة الناعمة للفن الأميركي الحديث لمحاربة الشيوعية. من بين أكثر هذه المبادرات فعالية كان (مؤتمر الحرية الثقافية) الذي موّل عددًا من المشاريع الثقافية، من ضمنها معرض كبير بعنوان "الرسم الأميركي الجديد" الذي جال في أنحاء أوروبا أواخر الخمسينيات.
أدت الشكوك بشأن الانتشار المفاجئ تقريبًا وتمويل الحركات الفنية الأميركية، مثل "التعبيرية التجريدية"، بالناقد ماكس كوزلوف إلى وصفه في مقال له العام 1973 بأنه "شكل من أشكال الدعاية الخيرية". لكن في حين أن الكثير معروف عن تمويل وكالة المخابرات المركزية للفن الأميركي خلال الحرب الباردة، إلا أنه نادراً ما نوقش دعمهم للفن العربي خلال الحقبة نفسها.
في كتابه الذي صدر العام 2013 (اللعبة الأميركية الكبرى: المستعربون السرّيون في وكالة المخابرات المركزية وتشكيل الشرق الأوسط الحديث)، يوثّق هيو ويلفورد حجم العلاقة بين وكالة التجسس ومنظمة "مناصرو العرب"، التي عُرفت باسم: أصدقاء الشرق الأوسط الأميركيين  (AFME).
أحد الـ 24 أميركياً الذين أسسوا منظمة AFME العام 1951 كان كيرميت روزفلت جونيور، وهو أحد ضباط المخابرات المهنيين، الذي لعب دورًا رئيسيًّا في الانقلاب المدعوم من قبل وكالة المخابرات المركزية الأميركية (CIA) للإطاحة برئيس الوزراء الإيراني المنتخب ديمقراطياً محمد مصدّق في العام 1953.
على العكس من (مؤتمر الحرية الثقافية)، كانت أهدافُ منظمة "أصدقاء الشرق الأوسط" داخليةً في المقام الأول، تسعى من خلالها إلى "وضع الحقيقة بشأن الشرق الأوسط أمام الجمهور الأميركي"، وفقًا لتقريرها السنوي الأول. يشير كتاب ويلفورد إلى أن روزفلت حوّل تمويل وكالة المخابرات المركزية إلى منظمة "أصدقاء الشرق الأوسط" من أجل "تعزيز التقدير الأميركي للمجتمع العربي والثقافة العربية، ومواجهة التأثير الصهيوني المؤيد لإسرائيل على السياسة الخارجية الأميركية في ما يتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي".
سمح التمويل للمنظمة بإجراء العديد من الأنشطة غير النفطية والتجارية، بما في ذلك تمويل التبادل الطلابي، المحاضرات، تعزيز العلاقات الدبلوماسية، وإقامة الأنشطة الثقافية. ثم سرعان ما أسست المنظمة "قسم العلاقات الثقافية" الذي أشرف على تمويل المعارض الفنية وزيارات الفنانين العرب إلى الولايات المتحدة.
في العام 1954، موّلت المنظمة معرضاً متجوّلاً كبيراً، وسلسلة من محاضرات، وحضورًا إعلاميًّا لجواد سليم، أحد أشهر الفنانين العراقيين، الذي عرض 21 لوحة ورسمة وسبع منحوتات تم نقلها بالطائرة من بغداد وعرضها في متحف "سويت ل.د.م" في مدينة بورتلاند، ولاية مين، وغاليري "دي براكس" في فيلادلفيا، وغاليري "بيلفيلد أفينيو" في بيتسبرغ، والمقر الرئيس لمكتب الغرب الأوسط في شيكاغو.
أختتمت الجولة بمعرض في المقر الرئيس لمنظمة "أصدقاء الشرق الأوسط" المستأجر حديثًا، والذي كان يعرف باسم "بيت الشرق الأوسط" في مدينة نيويورك (تم نقل مقر المنظمة في النهاية إلى واشنطن العاصمة في العام 1958). باع جواد سليم عددًا من الأعمال في الولايات المتحدة وأهدى لوحة بعنوان "بائعة البطيخ" إلى بيت الشرق الأوسط، إذ تم تعليقها بعد ذلك في مكاتبهم.
في العام 1955، أقامت المنظمة أربعة معارض فنية لفنانين من الشرق الأوسط، من ضمنهم السوري فاتح المدرّس، والمصريّان جيراير بالموديان وصلاح طاهر، الذي كان مدير المتحف المصري للفن الحديث آنذاك. كما استفاد الفنانون الإيرانيون، والأتراك، والباكستانيون كذلك من عطايا هذه المنظمة.
في الواقع، أرسلت المنظمة في 1957-1958 أعمالاً فنية باكستانية إلى بغداد وطهران فيما يبدو بأنه مسعى لتطوير العلاقات بين حلفاء أميركا الإقليميين. كانت منظمة "أصدقاء الشرق الأوسط" نشطة بشكل خاص في عامي 1962 ـ 1963 إذ قدّمت "المساعدة في جدولة معارض مثيرة للاهتمام" إلى صالات العرض في نيويورك، مينيابوليس، إيفانستون، سان فرانسيسكو، سبوكين، وبيتسبرغ.
في العام 1965، مولت المنظمة معارض للمصور العراقي لطيف العاني، والرسام التونسي جلال الغربي، وحفر على المعدن للفنانين محمد عمر خليل وحسن بدوي عمر من السودان، جنبًا إلى جانب مع أعمال الفخار لناصيف إسحق جورج. وفي العام التالي، نسقّت المنظمة معرضاً لرسوم وتخطيطات الفنانة العراقية وداد العزاوي الأورفلي ومواطنها فائق حسن في بيت الشرق الأوسط.
كما موّلت المنظمة العديد من المعارض الفنية الأخرى، بما في ذلك الفنانان السوريّان لؤي كيالي وممدوح قشلان، لكن لم يتم توثيقها كلها بالتفصيل. فعلى سبيل المثال، يصرّح تقرير المنظمة السنوي لعام 1967 بأنه موّل "معارض رسّام عراقي رائد وسبعة فنانين آخرين" على الرغم من عدم تسمية أي منهم صراحةً.
هذه المعارض كانت تجتذب طوابير من الناس، بما في ذلك الكتّاب، المثقفون، المشاهير، وكذلك الدبلوماسيون بمن فيهم سفراء من مصر، ليبيا، والمملكة العربية السعودية. تجدر الإشارة إلى أن هؤلاء الفنانين كانوا على الأرجح غير مدركين لأية علاقة لوكالة المخابرات المركزية بالدعم الذي ستحصل عليه معارضهم.
من غير الواضح بالضبط مقدار أموال وكالة المخابرات المركزية التي انتهى بها المطاف في منظمة أصدقاء الشرق الأوسط (إذ أن تمويلها رسميا قدم من مصادر عدة، بما في ذلك شركة أرامكو السعودية العملاقة للنفط، بميزانية مثيرة للإعجاب بلغت ذروتها في العام 1955 عند 500.000 دولار (أي ما يساوي 4.4 مليون دولار في العام 2016).
كانت مقالة صحيفة نيويورك تايمز لعام 1967 التي كشفت عن تمويل وكالة المخابرات المركزية بمثابة ضربة لمنظمة أصدقاء الشرق الأوسط، لكن دعم الحكومة الأميركية للفنّ العربي استمر حتى يومنا هذا تحت إدارة "مكتب الشؤون التعليمية والثقافية"، على الرغم من أن أهدافه قد تغيرت بشكل كبير.
أشارت دراسة حديثة أجرتها مؤسسة راند RAND بعنوان "الفنانون والانتفاضات العربية" إلى أن الإدارتين الأميركيتين السابقتين حددتا "الدور الذي يمكن أن يلعبه التواصل الثقافي في تحقيق الأهداف الأميركية الطويلة الأمد في مكافحة التطرف وتعزيز الديمقراطية والإصلاح في المنطقة".
قامت منظمة أصدقاء الشرق الأوسط (AFME) بتغيير اسمها إلى أميديست (AMIDEAST) في السبعينيات، ولكن خلال عقدين من وجودها بوصفها منظمة أصدقاء الشرق الأوسط، لعبت دورا رئيسا في عرض الفن العربي للجمهور الأميركي. بعض الفنانين المدعومين من قبل المنظمة واصلوا قيامهم بأدوار مهمّة في حركات الفن المعاصر في بلدانهم وخارجها.
علاوة على ذلك، يبدو أن معظم المعارض التي تم تمويلها استهدفت داخليًّا الجمهور الأميركي، بطريقة جعلتها "شكلاً من أشكال الدعاية الخيرية" المعاكسة من خلال استخدام أعمال الفنانين العرب المعاصرين لبناء روابط ثقافية أقوى.
ومع ذلك، نلمح اليوم وفرةً من المعارض الفنية، بما فيها عروض هاتريك 2017 لمؤسسة بارجيل (الإماراتية) للفنون في غاليري جامعة ييل للفنون، ومتحف هيسيل للفنون، ومركز كاتزن للفنون في الجامعة الأميركية. تسلّط هذه المعارض الضوء على الفن العربي بشكل متزايد داخل الولايات المتحدة. لكن هذه المرة يتم تمويلها إلى حد كبير ليس من قبل وكالة المخابرات المركزية مباشرة، ولكن من العالم العربي 
نفسه.
 
عن Newsweek