جميل الشبيبي
كتب الروائي إسماعيل فهد إسماعيل معظم قصص مجموعة (الكرة والباص) عام 1966، في مدينة البصرة وقبل مغادرته إلى الكويت بفترة قصيرة.
وخلال ذلك كان قد أنجز رواياته الثلاث (كانت السماء زرقاء، الحبل، المستنقعات الضوئية)، كما أن مجموعته الأولى (البقعة الداكنة) كانت قد صدرت قبل سنة من تاريخ كتابة هذه المجموعة.
تنتمي قصص هذه المجموعة إلى تراث القصة العراقية الستينية التي أعلت نزعة التجريب والمغايرة والقطيعة مع منجز القصة العراقية التي كتبت في الخمسينيات من القرن العشرين: قصص القاص عبد الملك نوري وفؤاد التكرلي وغائب طعمة فرمان، ومهدي عيسى الصقر، وغيرهم من جيل القصة الواقعية، التي انتصرت للشخصيات المهمشة والمعدمة من حياة الناس في تلك الفترة .
وعلى الرغم من ان الروائي إسماعيل فهد إسماعيل لم يكن على صلة مباشرة او غير مباشرة مع كتاب القصة الستينية العراقية ولم يطلع على تجارب القصة الستينية التي كتبها عبد الرحمن مجيد الربيعي وسركون بولص، وجليل القيسي ومحمد خضير واحمد خلف وغيرهم، إلا أنه كان قريبا من هذه الأجواء بفعل تحسسه للواقع الفاسد في العراق والوطن العربي الذي مهد لهزيمة حزيران عام 1967 ونتيجة لاطلاعه على الموجة الوجودية التي بشرت بها مجلة الآداب البيروتية ودار الآداب ونشرت ترجمات عديدة لكتب سارتر والبير كامو وسيمون دي بوفوار وغيرهم، يضاف اليها الاطلاع على نتاج القصة القصيرة العربية الجديدة وهي تحمل بذرة التجريب والقطيعة مع الأساليب القصصية القديمة كالتشظي في الحكاية وخلخلة زمن السرد، واعتماد ردود الفعل الذاتية عبر ملفوظات تستفيد من تيار الوعي، والدوران في دهاليز الذات لمواجهة تسلط الآخر أو تجنب اقتحام خصوصية عالم الذات، ترسيخا لمقولة جان بول سارتر (الجحيم هم الآخرون)
البداية في البصرة
أكد الروائي إسماعيل فهد إسماعيل في أحد لقاءاته المعروفة بلقاء يوم الجمعة في العام 2001 المخصص لأصدقائه ومتذوقي أدبه، أن بداياته كانت في مدينة البصرة، وانه كتب في البصرة (26) قصة قصيرة خلال العام 66 نشر واحدة منها فقط في مجلة البيان الكويتية، وهي إشارة واضحة إلى مجموعة (الكرة والباص) التي قرأ إحدى قصصها في هذا اللقاء، تبدأ الأسطر الأولى منها: (خطوط حمراء متوازية) بإشارة واضحة إلى قصة (الدثار) التي ضمتها المجموعة .
وخلال حديثه عن بداياته يقول: (أما القصص التي كتبت في تلك الحقبة والتي لم تنشر فإنها عديدة يعرفها الكثير من أصدقاء الكاتب. وقد وردت للأديب إسماعيل فهد إسماعيل رسالة من الصليب الأحمر ومن صديقه جميل الشبيبي قبل ثلاث سنوات (الحديث كان عام 2001) يذكره بقصة (لكنها الثورة) تلك القصة التي لم تدخل في أي مجموعة، جميل رأى أن الوقت قد حان لنشر هذه القصة إلى جانب سبعين قصة أخرى لم تنشر حتى اليوم) (1) وحقيقة الأمر أن رسالتي المذكورة قد تناولت تذكير الروائي بمجموعته المتميزة – في ذلك الوقت – (الكرة والباص)، وضرورة نشرها بعد أن أصبح اسمه علما من أعلام الرواية العربية، ولم تكن حول قصة محددة كما ذكرت الصحفية (فتحية حسين) التي نقلت الحوار.
في هذا اللقاء يتحدث الروائي أيضا عن قصته (الكرة والباص) التي كتبها عام 1963 وحذفت الرقابة 90 بالمئة منها، ويضيف (بعدها لم انشر حتى القصص التي كانت تتداول خلال كتابات (كانت السماء الزرقاء). لقد شعرت بنفسي شخصيتين إحداهما تكتب لفئة معينة تقتصر على الشباب من رواد مقهى ("هاتف" في البصرة) وشخصية تكتب لمن هم خارج الجماعة من عامة الناس) (2)، ويبدو أن قصة (الكرة والباص) التي كتبت عام 1963، قد تعرضت إلى تعديلات كثيرة بسبب هذا العداء لها وربما لأسباب أخرى نجهلها، لتظهر بشكلها النهائي، عام 1966 ولتصبح عنوانا للمجموعة.
ومجموعة (الكرة والباص)، تمثل إنجازا مهما في كتابات الروائي إسماعيل في تلك الفترة بعد روايته (كانت السماء زرقاء)، وقد أشاد الروائي بهذه المجموعة في رسالته الخاصة لي، بتاريخ 10/10/1966 حين تحدث في الرسالة عن طموحه في نشر كتاباته بعد هجرته للكويت، وقال فيها: (البقعة الداكنة أعدت كتابتها، بتعديل قليل على بعض جملها وأضفت لها قصة (إنسانان) التي تحبها أنت، وسأحاول أن أضيف في نهايتها قصة قصيرة أخرى، لأني حاولت أن أحِدَّ من المطِّ الموجود في قصصها سابقا. هذا من جهة، ومن جهة أخرى ستطبع البقعة الداكنة وتوزع في الكويت فقط، ولم لا... ما دامت الكويت لم تطلع على نسخة منها قبل الآن، علاوة على أني سأحصل على بعض النقد عن هذا الطريق، وسأقوم بتثبيت بعض أقدامي، أما كتبي الحبيبة فسأطبعها حتما وحتما في لبنان وإلا فلا...
أما أن أطمع بطبعها هنا، أوه، ذلك جنون.. كلمة منها .. وأنا بره) (3).
والكتب (الحبيبة) التي يقصدها هي رواية (كانت السماء زرقاء) ومجموعته القصصية (الكرة والباص) وكان الروائي قد أشار إليهما في الرسالة نفسها حين كتب (فالكتب التي بقيت على الرف "السماء زرقاء والكرة والباص" هم أطفالي، ولكن الواقع المعطى الجديد يفرض علينا تنازلات من أجل أن نصعد فيه) (4).
لقد تعرضت العديد من كتب الروائي – كما تنبأ فعلا- إلى الإبعاد والمنع في وطنه الكويت، (كانت السماء زرقاء، المستنقعات الضوئية، الحبل ....الخ) مع أن ثيمتها وفضاءها وأحداثها لا تجري في الكويت بل في العراق وفي البصرة تحديدا، ولو أنه طبع مجموعته هذه لتعرضت للمصير نفسه.
لقد كان الروائي إسماعيل فهد إسماعيل، قامة إبداعية وطاقة تجريبية كبيرة منذ بداياته الأولى، وتكشف قصصه المبكرة هذه، نزعته وميله إلى الجديد والمبتكر الذي تشير إليه هذه المجموعة بشكل جلي، وسوف يجد الناقد والمتلقي الذي يبحث عن القيم الجمالية والشعرية العالية، في الفن القصصي القصير فضاء رحبا في (الكرة والباص)، التي كتبت في وقت مبكر من زمن السرد العراقي والعربي القصير.
(1) فتحية حسين - جريدة الوطن الجمعة 10 أغسطس 2001 - العدد 9157/3603 السنة الأربعون.
(2) المصدر نفسه.
(3) رسالة شخصية للكاتب من المؤلف بتاريخ 10/10/ 1966.
(4) الرسالة نفسها.