حميد المختار
إنه رثاء متأخر للأسف ولكن ما باليد حيلة، ونحن نعيش فقدانات يومية متوالية لأعز الأصحاب والأخوة والأحباب، وفي هذا الخضم يرحل عن دنيانا الروائي الاسباني الكبير كارلوس زافون وهو في قمة عطائه وإبداعه، ولولا دار الجمل لما تعرفنا على هذا السارد الساحر الذي أتحفنا برباعية (مقبرة الكتب المنسية) (ظل الريح، لعبة الملاك، سجين السماء، متاهة
الأرواح).
لقد عشت معها أجمل الأيام والليالي وانا اتابع مصائر الأبطال وارتباطاتهم السرية بتلك المكتبة التي لايعرف عنها احد شيئا سوى بعض روادها الذين ارتبطت مصائرهم بكتاب من كتبها، هي تاريخ أسبانيا ورحلة غريبة وعجائبية في خفايا وبواطن برشلونة، الظلام والعذابات والسجون وعلاقات القلوب الطيبة ببعضها والعذاب والفساد السياسي، والبطولة والشرف والنزاهة والصراع الأبدي بين قوى الظلام وقوى الخير، رحلة عجيبة اختصر بها زافون تاريخ الوجود البشري بكل تداخلاته وغرابته، لهذا دخل هذا الرجل في سجل الأصدقاء المقربين برغم بعد المسافات واختلاف اللغات، لكنه دخل القلوب بقوة حضوره الإبداعي والإنساني، وحين غادر العالم متأثرا بسرطان القولون لم يغادر تلك القلوب التي أحبته وأخلصت له من خلال متابعته وانتظار ماتجود به علينا يد المترجمين ودور النشر المهتمة بأدبه الفذ، ثم هو ليس منفصلا عن سابقيه من الذين احتفوا بالكتاب والمكتبات وأولهم بورخس الكبير الذي قاد العالم من ظلماته وعماه إلى نور المكتبة واعجازات الكتب، فصار يرسم بنية المتاهة المعرفية ويدخل أبطاله اليافعين في بواطنها ويتركهم يكتشفون بأنفسهم سرا من أسرار الوجود الإنساني الغامض، حين يربط مصيره بمصير كتاب مدفون في غبار المقبرة المنسية للكتب، لكن زافون يختلف عن سابقيه عشاق الأوراق الصفر والكتب القديمة حين يقدم بضاعته المعرفية على طبق من لغة سلسة تتسم بالوضوح والصفاء الذي يعطي للقارئ الجديد نبضا من الأمل في التواصل على العكس من بورخس الذي تخصص في أدبه السردي لمخاطبة نخب محصورة في مكتبات قوطية وهو هنا قد يلتقي مع زافون حين يستخدم استعاراته المعقدة بعض الشيء لتركيب أسلوب ميلودرامي خاص به، من الأعمال الروائية الأخرى التي لم نطلع عليها وربما هي لم تترجم اساسا إلى اللغة العربية، رواية (امير الضباب) ورواية (مارينا) ورواية (قصر منتصف الليل) ورواية (أضواء سبتمبر) وهي روايات مخصصة للفتيان واليافعين وقد حصلت هذه الروايات على جوائز لأدب الناشئين وترجمت لأكثر من ثلاثين لغة وتوزعت في جميع أنحاء العالم إلا العالم العربي، فلم تترجم هذه الروايات حسب علمي للغة العربية، رحم الله هذا الكاتب الكبير ورحم الله مبدعينا جميعا، ويبقى زافون رائد السرد الساحر الذي منح العقل الإنساني والذائقة الإبداعية الكثير من الثقافة والمعرفة والمتعة
الكبيرة.