لؤي حمزة عباس
الأمل بالنسبة لي هو أن أحيا يومي بسكينة وسلام من دون أن يؤرقني هاجس الغد، وأن أمضي بهذا الحوار حتى النهاية في نوع من المراقبة والتعليق على ما يستجد من أفكار وما يطرأ من وقائع محلية وعالمية تحت حصار عام بموجب الوباء الناجم عن كورونا. يتضمن أملي بكل تأكيد طمأنينتي على أسرتي وأهلي وأصدقائي داخل العراق وخارجه، فهم يمثلون الوجه الآمن من حياتي.
وصلتني أمس رسالة جوابية من صديقنا الروائي أحمد سعداوي المقيم في تركيا حالياً، حدّثني فيها عن وضعه الشخصي والأسري في ضوء حظر الحركة الشامل في اسطنبول، المدينة التي تأخرت نسبياً بإجراءات مواجهة الفيروس، وحرصه على البقاء في مزاج جيد، يقرأ ويشاهد الأفلام، منتظراً مثل الجميع مرور الإعصار وإطلاق السراح الكوني.
من جواب أحمد، ومن حديثك عن رحيل رفعت الجادرجي، ومن متابعتي ليوميات الحَجْر في مختلف بقاع العالم، من خلال الصور والفيديوات والتقارير الإخبارية التي تصلنا عبر أجهزتنا الشخصية وقد هيأت مساحة مهمة للمتابعة الكونية، اليسيرة والتفصيلية، أحدّثك عن تحكم (إعصار كورونا) بمقاليد حياتنا وتقاليدها، الزمنية والمكانية على حد سواء، بعد أن أدخلتنا بلا مقدمات في دوامة زمنية لم نعش مثلها من قبل، وقت طويل مفتوح، نهايته غير معروفة حتى الآن، مثلما وضعتنا جميعا في ظروف مكانية متقاربة، حديث سعداوي عن حالته شبيه بما يقوله أصدقاء آخرون يعانون الحَجْر والعزلة داخل منازلهم في مختلف مدن العالم.
لم يعمل الفيروس على اختراق الحدود بين الدول بحركة سريعة فحسب، بل عمل على أن يجعل من نفسه حداً لكل مكان يقطنه البشر، حدود عالمنا اليوم ليست بالحدود الجغرافية المعروفة والمؤشرة منذ قرون، إنما هي المسافات الفعلية التي تفصل بيننا وبين الخطر، الفيروس يحاصرنا بوصفه الحد المخيف وغير المرئي الذي يحيط بحياتنا، الحد المميت بين ما هو لنا وما هو ليس لنا، والنقطة الثانية تصبُّ في معنى الموت في زمن الجائحة، ومنه موت المعماري رفعت الجادرجي الليلة البارحة، الموت هو الموت نفسه في جميع الأحوال، ذلك بالنسبة للميت ومن منظوره، أما بالنسبة لمن يشهد موته ويودّعه من الأحياء فالأمر مختلف، محض التفكير باحتمال التضحية بالميت باعتماد مبدأ المفاضلة في علاج الحالات المصابة بالفيروس، يجعلني في حال من التشوش والانفعال، وهنا الأمر لا يتحدّد بموت الجادرجي، بما يمثله من بعد مدني ورمزي في ثقافتنا، بل ينفتح على المعنى البعيد للموت تحت ظل الجائحة الذي لا ينفصل عن معنى التضحية، مبدأ المفاضلة يُعيدنا لمفهومي التمييز والتراتبية اللذين أراهما يحطّان من شأن الحياة بقدر تطلعهما للانتصار
لها.
من المناسب هنا أن أستعير مصطلح البابا في كلمته بمناسبة عيد الفصح، فقد تحدّث عن أهمية نشر (عدوى الرجاء) في مقابل عدوى الفيروس الحاضرة بقوة وإصرار، كاتدرائية القديس بطرس كانت خالية من المصلين وصوت البابا المسن يرتفع مثل إشارة طلب نجاة، والأمل طوقنا الوحيد، هو مشهد يلخّص ما نحن عليه بعد أن حوّل الفيروس أبسط عاداتنا إلى وقائع مرعبة، وجعل أماكننا الحاشدة أطلالاً تصفّر فيها الريح، أشباح بشرية تجول وحيدة، وقد جعلت من كل ما تقع عليه اليد أقنعةً وكمامات، ذلك ما تكشفه الصور المرسلة من مختلف بقاع الخوف، أكياس ورقية ونايلونية، كبيرة وصغيرة، وقناني مياه بلاستيكية، طرابيش ملونة واسفنجات غسيل الصحون، ويبدو أنه الوقت الأنسب لإخراج بدلات الوقاية وأقنعة مواجهة الضربات الكيمياوية من أدراجنا المعتمة التي لم تفتح منذ عقود. إنه الخوف وقد زعزع العقل عن صرامته وأحال حياتنا إلى مشهد مختلط، ساخر وحزين..
* من كتاب (حياة تتهدد/ محاورات ويوميات كورونا)، تأليف مشترك، عبدالزهرة زكي ولؤي حمزة عباس، الكتاب تحت الطبع.