النص الإبداعي نص جمالي ينبع من تجربة شعورية فيكشف من قدرة تعبيرية.. والخلق الشعري حالة من التسامي المتجاوز لجغرافية المألوف بوسائل تعبيرية مكتظة بوظائفها الجمالية التي تتجسد بشكل رمزي ودلالات تقترن بالواقع.. إذ تقوم على اقتناص اللحظة وبلورتها لصالح كينونة لغوية تحيلها من الواقعي الى الذهني التخييلي في إطار بنية تعتمد تقنيات فنية (زمكانية وحدثية)..
والشاعر جمال جمعة في مجموعته الشعرية (قصائد فيلنيوس) التي جمعت ما بين النص والنص القصير (نص الصورة) على حد تعبير الناقد محمد صابر عبيد.. وأسهمت الدار العربية للعلوم ناشرون على نشرها وانتشارها /2015.. كونها تقوم على الصورة الشعرية الاداة الكاشفة عن جوهر التجربة والمحققة للذات موضوعيا.. والتي تتخطى الحسيات الى أفق الرؤيا بمخاطبتها الوجود والأشياء.. ابتداء من العنوان الأيقونة السيميائية الدالة على المكانية والكاشفة عن عاصمة الثقافة الاوربية من الناحية المعمارية (فيلنيوس) التي هي واحدة من المقاطعات التي تشكل عاصمة لليتوانيا).
"لو حدث وان انهمر الثلج/ فسأجد نفسي في ذلك الشارع الفسيح/ المزيَّن بأشجار السنديان/ وأنتِ تتشبّثين بذراعي صدفة/ حتى لا تتزحلقي على الرصيف/ لو حدث وان انهمر الثلج/ سأدعوك الى العشاء/ وأوقد لك شموعا طويلة حمراء على المائدة/ لكي تقعي في حبي وأتزوجك/ لو حدث وان انهمر الثلج/ سننجب طفلين رائعين/ ثم أهجرك بعد قصة غرام عميقة ص13"، فالشاعر يبوح بوحا وجدانيا مستنطقا من خلاله الطبيعة كانعطافة جمالية من خلال امتلاكه قدرة الحلول فيها واتخاذها بؤرة تتمركز فيها الذات بوجودها ووجدها والتي امتلكت القدرة على أنسنة عناصرها بإسناد الأفعال والصفات لها.. فضلا عن استنطاقه المكان بصفته دالا إشاريا متشعبا بأحداثه التي التفت عليه بخيوطها فمنحت نسيجه تماسكا عبر سرد شعري للمواقف المتوالدة من تفجير الفعل الانهماري الدال على الحركة.. فضلا عن استثماره التداعي والتفاصيل اليومية لاضاءة بعض العوالم المعتمة بلغة بعيدة عن الضبابية والغموض عبر خطاب الذات ومناخاتها للتعويض عن الغربة وايجاد حالة من التوازن والعالم الموضوعي بخلق نص يقوم على البناء المقطعي (الكتلي) بدلالات متكافئة.. سابحة في بنيتين اساسيتين هما: البنية اللغوية والبنية المعرفية.. مع تجلٍّ إبداعي بتوظيف تقنيات فنية وأسلوبية كتقنية السرد الشعري الجاذب.. وتقنية التكرار الجملي الذي شكل لازمة للنص ودلالة نفسية ونمطا صوتيا يتصل بالذات المنتجة ويسهم في تلاحم البناء الشعري وترابطه عبر نغمة مموسقة بانتظام (لو حدث وان انهمر
الثلج)..
وهذا حقق هدفين اساسيين فاعلين.. اولهما: ايقاعي ينعش ذاكرة المستهلك (المتلقي) ويحقق له المتعة الروحية.. فضلا عن أنه يسهم في تطوير الايقاع النصي ويعمق طاقته الموسيقية.. وثانيهما دلالي يحقق المنفعة الفكرية بتساؤلاتها..
"في العناق الأخير.. كنتِ مستسلمة تماما/ واهنة.. لاتكادين تقوين على خفض ذراعيك/ كأنّ خيوطا لا مرئية تشدها الى فوق../ تشدك مثل دمية لا تقوى بدونها على الوقوف/ في العناق الأخير كنت واهنة/ تستندين بمرفقيك على كتفي/ محاولة أن تطوقينني/ وكأنما تطوقين الهواء/ في وداع أخير / ص32".
فالنص يقوم على أعتاب الجملة الفعلية الدالة على الحركية المركبة.. من خلال فعل الصورة الذي ينتقل من الخارج الى الداخل عبر أفعال النص (كنت/ تكادين/ تشد/ تقوى/ تستندين/ تطويقي..) الخالقة للصورة النامية نموا دراميا.. فضلا عن محاولة المنتج (الشاعر) تطويع اللغة في انزياحاتها عن مساراتها المألوفة فيعمد الى تعالق الرؤى والحالة النفسية في صور شعرية همها الفلسفة الجمالية بتكوينها العضوي الواعي الذي هو وسيلة لإنجاز وظائف تخييلية وتأثيرية من خلال الغوص في أعماق الذات للتعبير عن الأبعاد النفسية والانفعالية كي يمنح نصه بعدا ديناميا ويكسبه مضمونا إنسانيا مضافا.. أما في نصوصه القصيرة جدا
( short poem نص الصورة) الذي هو فكرة تنتج نصا شعريا متكاملا له خصائصه ومميزاته البنائية والفنية (الكمية والكيفية).. حيث التكثيف والايجاز والاختزال الجملي والضربة الأسلوبية الادهاشية المفاجئة.. واستحضار أكبر طاقة من الإيحاء والتركيز والرمز الذي هو قدرة إبداعية استثنائية..
"بعد قليل ستطلين (هكذا أقول لنفسي) / فالمرأة في الشرفة/ ترتدي ذات ثوبك/ ونداءات الأطفال لها نبرتك/ وعطرك الذي يرج كل مفاصل جسدي/ سترميه أول عابرة/ في هوائي /ص74".
فالنص تشكيل انطباعي للصورة البصرية المرتسمة في المخيلة والمنسوجة وفق تقنية فنية تشكل كيانا قائما بذاته برؤية فكرية تعنى بتصوير الأبعاد الزمكانية والحدثية انطلاقا من لحظة وعي يحققها الشاعر فيتجاوز الاستطرادات ويعتمد التركيز الدلالي بألفاظ موحية تثير التأويلات بتخطيها المعنى
الأحادي. وبذلك قدم المنتج (الشاعر) نصوصا تتسم بالوعي الجمالي الذي ينم عن فكرة محكمة في معانيها وهي تتكئ على المجاز والخيال محققة لسايكولوجية التواصل الشعري بوصفه (خطابا غني
الدلالة)..