د.محمد فلحي
بعد مضي اثنين وستين عاماً، لا تزال الحركة التي قادها عدد من الضباط العراقيين فجر يوم 14 تموز(يوليو) عام 1958 تواجه سؤالاً مهماً: هل كانت ثورة أو انقلاباً؟ إن الانحياز إلى أحد هذين الوصفين أصبح مجرد وجهة نظر، فهناك تناقض بين فريقين، أحدهما يمجد الزعيم وثورته،وثانيهما يجرمه ويشتمه!
في خطابات رئيس الوزراء الراحل الزعيم عبد الكريم قاسم الحماسية، تكررت كثيراً عبارة (جمهوريتنا الخالدة وثورتنا الخالدة )، وكان الرجل ضابطاً شجاعاً،طوال تاريخه العسكري، لذلك عندما أصبح سياسياً فجأة لم ينزع ملابسه العسكرية،ولكن أصبحت شهيته مفتوحة للخطابات الإذاعية خصوصا ،فقد كان التلفزيون محدود الانتشار في تلك الحقبة،وقد استوعب الزعيم خطورة التحديات التي واجهت نظامه،فراح يصدح بخطابات جماهيرية تعبوية تحريضية ربما ساعدته في بناء قاعدة شعبية واسعة،في بداية عهده، خاصة إن العراق لم يعرف في العهد الملكي ظهور شخصية دعائية كارزمية تخاطب الشارع وتحركه وتوجهه، لكن خطابات الزعيم أصبحت مجرد فقاعة دعائية صاخبة تفجرت بعد أربعة أعوام ونصف،عندما اقتيد الزعيم الأوحد من قبل الانقلابيين من رفاقه السابقين إلى غرفة الإعدام في مبنى الإذاعة والتلفزيون،يوم 9 شباط 1963،فكان موته في ذلك المكان الذي كان يحلم أن يكون منصة لصناعة مجده،وتلك من حكمة الأقدار الإلهية! (إننا..إننا ضد الاستعمار والرجعية..إننا ضد الظلم والإقطاعية والعبودية...إننا نحارب الحزبية..ثورة لا شرقية ولا غربية) تلك العبارات المتكررة والنغمة العالية تعودت عليها حينذاك مسامع العراقيين، حتى أن بعضهم كانوا عندما يشاهدون جنازة مارة فوق سيارة، يؤدون التحية للمتوفى، ثم يقولون ساخرين:(روح الله معك خلصت من خطابات الزعيم)! اصطبغت حركة الزعيم منذ يومها الأول بلون الدم،فقد قام ضباط تموز بإبادة الاسرة الملكية الحاكمة،وحاكمت محكمة المهداوي رموز النظام الملكي وعاقبتهم بقسوة،ثم تفجر الخلاف بين شريكي الانقلاب الزعيم عبد الكريم قاسم ونائبه عبد السلام عارف،ومن خلال تزايد شقة الخلاف بين شخصيتين واتجاهين سياسيين، امتد الصراع الى الشارع بين الحزب الشيوعي المقرب من الزعيم،من جهة، والتيار القومي الذي يضم حزب البعث والقوميين العرب من جهة ثانية،وكان لكل من هذين التيارين المتصادمين شعاراته وجمهوره وسلاحه وتمويله ودعمه الخارجي الإقليمي والدولي!
خطابات الزعيم كانت صوت السلطة الأقوى،وميزان السياسة، لكنها لم تكن قادرة على الإقناع والتأثير،مثلما كانت في بداية التغيير، فقد تراجعت مصداقيتها واضمحل صداها في الشارع، وأصبحت وسيلة تخدير،في مواجهة أزمات ومؤامرات واتهامات وانقسامات متزايدة،وفي الوقت الذي كان الزعيم يتجنب وصف غريمه الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر بنعوت شخصية سيئة،كانت إذاعة (صوت العرب) من القاهرة تنقل خطابات مدوية لعبد الناصر يهاجم فيها الزعيم ويسميه (قاسم العراق) ويخصص المذيع المصري الشهير أحمد سعيد مقاطع من حديثه اللاذع للاستهزاء بحكم الزعيم العراقي!
حرب الهواء بين قاسم وعبد الناصر تصاعدت بين الرئيسين العربيين عندما طالب قاسم بضم الكويت للعراق واعتبرها مدينة عراقية سرقها المستعمرون،لكن عبد الناصر رفض مشروع قاسم الوحدوي،وقاد تحالفاً عربياً لحماية الكويت ومن ثم دعم استقلالها رسمياً.
الزعيم كان يصف خصومه دائماً بـ(الخونة) و(العملاء) فعملية التخوين والاسقاط والغدر في السياسة ليست غريبة، بيد أن تاريخ العراق القديم والحديث،حافل بهذا النوع من القصص،التي تدور حول الصراع على السلطة والنفوذ،في بلد يعرف بعدم الاستقرار المستمر.
يُروى أن نوري السعيد داهية العراق في زمن النظام الملكي،شعر في أواخر أيامه، أن هناك مؤامرة تدبر في الخفاء من قبل بعض الضباط العسكريين الذين سبق أن رعاهم ومنحهم الرتب العسكرية تحت القسم المعروف بالولاء للملك والمملكة والشعب والوطن،فأرسل إلى بعضهم يستدعيهم للحضور عنده، وراح يعاتبهم، ثم طلب منهم، مد أيديهم على الكتاب الكريم،وأداء اليمين مجدداً، والحلف بعدم خيانة الملك والشعب، فاقسموا جميعاً، في صبيحة يوم 14 تموز(يوليو) قام بعض أولئك الضباط بخيانة ذلك القسم العظيم، وأعلنوا انقلابهم المعروف، وقتلوا الاسرة الهاشمية المالكة، وسحل بعض الناس الناقمين جثة الوصي عبد الإله ونوري السعيد في شوارع بغداد.. وكانت التهمة الجاهزة لهؤلاء الضحايا هي خيانة الشعب والوطن.. فقل لي أعزك الله، من هو الخائن ومن هو المخون، في هذه المسرحية المحزنة!؟..وتلك لعبة السلطة الدموية، فهل كانت ثورة او انقلاباً؟!