سرديات الحرب الأهلية الاسبانية في رواية {من دون بكاء}

استراحة 2020/07/18
...

كامل عويد العامري
بعد أنْ نالت ليدي سالفير جائزة غونكور عن روايتها (من دون بكاء) عالم 2014 طافت شهرتها، بوصفها جوهرة صغيرة تستحق القراءة. تتحدث هذه الرواية عن الحرب الاسبانية وعن نفي أبويها إلى فرنسا، وقد لعبت حالة المنفى في البدء في حياتها، ثم في هذه الرواية دور أساسي، إلى جانب ذلك، فإن إعادة بناء حياة أمها، قد فكك رموز الذكريات، وقد يكون إحياء هذه الرموز وبناؤها بأسلوب أدبي أمراً صعباً، وعليه تراجعت الكاتبة بخطوة إلى الوراء لتروي عن منفى الأم وتجربة التحرر الإسبانية.
ربما لهذا السبب كان عنوان روايتها (من دون بكاء)، ثم إن العبارة المقتبسة من دون كيشوت لميغيل سرفانتس، في صدر الرواية توضح فكرة الكتاب (ما خطبك، أيها المخلوق الجبان؟ ما الذي يبكيك، يا رقيق القلب؟) لأنها كانت تريد التعبير عن حالتها الذهنية في وقت تصور الرواية، متجنبة السرد المؤلم والمثير للبكاء عن المنفى.
 
العلاقة بين الذاكرة والتاريخ
كانت هذه الحرب الأهلية الاسبانية هي الأولى بعد العظمى، ولكنها لم تبدأ بذات الطريقة بالنسبة للعالم لقد غيرت الآراء السياسية لدى البعض: على سبيل المثال، اراء جورج بيرنانوس الذي أقام لمدة عامين في بالما ديميوركه عندما رأى المجازر التي ارتكبها القوميون ضد “الحمر”.
إنّ ميزة رواية ليدي سالفير هو وضع حقيقتين متناظرتين من الواقع التاريخي نفسه، والاشادة بقوة الشباب الكتالوني. صوتان، لغتان لمأساة يعرف قارئها النتيجة، وفي النهاية تكشف مونتسي شهادتها لابنتها، الرواية، كجزء من ماضيها الذي كان حتى ذلك الوقت غير واضح. 
وهنا تبرز العلاقة بين الذاكرة والتاريخ بوصفها الجانب الأساسي في روايتها. فضلا عن ذلك إنها، تستحضر المتغيرات الجسدية لدى والدتها وفي هذا تقول: “كانت والدتي جميلة، حتى وهي في سن الشيخوخة، لقد هرم جسدها، وتعاني من اضطرابات في الذاكرة”. إنَّ الكاتبة تشعر بنوع من الاثارة أمام الأدب الذي له علاقة بالذاكرة، “صحيح أننا في أوروبا مرتبطون بالتاريخ. وفي فرنسا، ربما نعيش في حالة من فقدان الذاكرة تمامًا، حيث يتم نسيان الأشياء باستمرار في هذه الرواية. كانت لدي رغبة متناقضة في زرع شخصية، هي شخصية مونتسي المنسية، من أجل فضح فضائل النسيان، لأنه من دون نسيان لا توجد ذكريات على حد قولها. ومن هنا فقد كان تركيزها على تجربة شخصية مونتسي المنسية من كل التاريخ، ولتروي تطورها فضلاً عن اكتشافها للحرية والحياة، مروراً من مكانة المرأة الجاهلة التي لا تعرف شيئًا عن العالم والجنس والرجل، إلى وضع حر.
ومع هذا كي لا تضيع بين قصص بيرنانوس وذاكرة والدتها الضعيفة، بعد خمسة وسبعين عامًا من الأحداث، مليئة بالتعرجات والثغرات، تستشير ليدي سالفير أيضًا بعض كتب التاريخ لإعادة بناء سلسلة الأحداث الممكنة على وجه التحديد.
ففي ما يتعلق بالتجربة التحررية (الاناركية) في إسبانيا، التي تعدُّ حدثاً غير معروف، لأنه في ذلك الوقت، ولأسبابٍ سياسية، “كان علينا أنْ نخفيها ونحتفظ بهذا التاريخ الأناركي مدفوناً، الذي أعرفه عن ظهر قلب لألف سبب. فضلاً عن ذلك، من الأمور الغريبة كنت محاطة بالأناركيين، وعلى أساس الحبكة، في المرة الأولى التي ذهبت فيها إلى جارتي سونيا، رأيت مكتبة تحتوي على الكثير من الكتب حول بوينا فينتورا دوروتي، الرئيس السابق لـ رجال المليشيات الأناركية، وأخبرتني أنَّ والدها، في السابعة عشرة من عمره، كان مساعداً لدوروتي”.
 
كتابة ماهرة
لقد كانت كتابة ماهرة تمزج بين عدة أصوات: صوت أم لاجئة إسبانية تعيش في فرنسا منذ استيلاء فرانكو على السلطة، والتي تروي “الحرب الإسبانية”، تواجه ابنتها، الراوية، تحت قناع المؤلفة لأنَّ ما يعارضها هو قبل كل شيء مسألة اللغة، فقد ابتكرت الأم لغة محببة، مزجت فيها الفرنسية المقاربة مع الصيغ الإسبانية القوية التي تمنحها الحيوية، فتعمدت على إدراج الجمل أو الشعارات المكتوبة باللغة الإسبانية، للحفاظ على تأثيرها وكثافتها، في حين أنَّ الابنة، وهي كاتبة مشهود لها، لا يمكنها أنْ تستعيد هذه 
الحيوية. 
ومن المعروف إنَّ ليدي سالفير تميل إلى اللغة الكلاسيكية الصارمة وإلى المحادثات اللفظية التي تحرك شخصيتها، فتعيد إنتاج اتجاهين في أسلوبها، بين شفاهية حديثة وديناميكية وفن الاختلاف الماهر. إنها أيضًا طريقة لقول: إن الأدب يمكن أنْ يحمل عدة لغات. وهذا ما تعلمته الكاتبة من الشاعر الأيطالي كارلو أميلو جادا، (ولد في 14 نوفمبر 1893 في ميلانو وتوفي في 21 مايو 1973 في 
روما). 
في عمله، يجد المرء لهجات رومانية ولومباردية وكذلك شتائم وأغاني. ثقافة تعلمها الكاتب إلى جانب الثقافة الشعبية. وما كان يعجبها في جادا هو هذه النغمة اللغوية 
والثقافية. “كلما أتيت إلى إيطاليا، أحييه وأذهب لزيارته في المقبرة. أعشقه. فمن فضائل الأدب أن تكون قادرًا على إحياء كل هذه اللغات، هذه اللغات العامية، هذه الأصوات المستبعدة بشكل عام من الثقافة الأدبية السائدة. كما أنها طريقة لطرح سؤال سياسي حول اللغة. هل يجب أنْ تعيش اللغة كتهديد لكلمات المهاجرين أم لا؟ 
يمكننا أنْ نجيب على الفور ومن دون تردد أنَّ اللغة أكثر ذكاءً من الرجال الذين يتحدثونها. اللغة الفرنسية على وجه الخصوص، ليست فقط خائفة من هذه الكلمات الأجنبية، ولكنها تجعل منها كلمات معسولة. يجب على الكتاب استعادة هذه الشخصية الحية للغة بشكل اعتيادي، كما فعل جادا...
كان هناك صوتان متداخلان، صوت جورج بيرنانوس المرعوب من خلال (المقبرة الكبرى في ضوء القمر) - الذي صدر عام 1938؛ واعيد إصداره عام 2014 - في الوقت الذي فيه دعم هذا الكاثوليكي اليميني انقلاب فرانكو الذي كان (ابنه جزءاً من الكتائب)، ولكنه تمرد ضد بربرية الفظائع التي ارتكبت في ميوركه باسم الكنيسة، كان الشاهد المباشر على أساليب القمع التي يستخدمها القوميون الفرانكويون ضد خصومهم في بالما دي ميوركه. لقد شعر بالرعب الشديد مما لاحظه، فيفر من إسبانيا وهو ينكب على كتابة كتابه “المقابر الكبرى في ضوء القمر”، الذي أدان فيه “قذارة البشر عندما تستولي عليهم أفكار التعصب والغضب حتى وصلوا إلى أسوأ الانتهاكات”، وهنا تأخذ الإشارة إلى بيرنانوس بعداً مأساوياً لقصة الأم في الرواية، مذكّرةً بأنَّ الملحمة التحررية لعام 1936 تم سحقها في حمام من 
الدم.
 
صوت نابض بالحياة
ثم يأتي صوت مونتسي، وإذا كان صوت بيرنانوس له صداه، يجب أنْ نعترف بأن ليدي سالفير في روايتها تفضل قبل كل شيء صوت مونتسي، وهو صوت نابض بالحياة، صوت يتكلم باللغة الفرنسية المشوشة، التي تسيء الأم استخدامها وتشوهها عن طريق إدخال الكلمات الإسبانية ومزجها بكلمات 
فرنسية.
إنَّ صوت مونتسي هذا، الذي كان يسيء استخدام الكلمات البذيئة منذ مرضها، كما لو أنها تمكنت أخيراً من تحرير نفسها من الرقابة الاجتماعية، هو بلا شك أجمل تكريم من ابنة لأمها، في قصة حية كتبها قلم متمرد وساخر على حد سواء لأنه من الأفضل أنْ يكون الضحك كالبكاء.
إنَّ لغة الرواية باستخدامها للعبارات العامية أو المبتذلة أحياناً موجودة على جميع مستويات تصور روايتها، وتشمل كل شيء: هذه العامية الشكلية، في استخدام المصطلحات المبتذلة والجافة والتلميحات البذيئة، كل ذلك يشكل أيضاً أساساً في البناء، لأنه يبيت النية التي تسبق ولادة العمل في نقد الكاثوليكية، على الأقل، الكاثوليكية الاصولية والمرائية، التي انقادت إلى أنْ تخوضَ في الوحل والقرف، وإلى نقد القومية، جميع القوميات، ونقد الحرب الأهلية، ونقد التعصب.
ولكنها بالمقابل كان من الضروري إحياء ما جرى في العام 1936 من موجة من الثورات التحررية التي ليس لها نظير آخر في أوروبا والتي قمعت بوحشيَّة.
 
تجنب السرد التاريخي
ومع ذلك، لا يمكننا أنْ نقول إنَّ (من دون بكاء) هي رواية تاريخيَّة عن الحرب الإسبانية: تتجنب ليدي سالفير بمهارة الوقوع في فئة “الروايات التاريخية”، وذلك بالتحديد من وجهة نظر الأم، مونتسيرات، المعروفة باسم “مونتسي” بالنسبة لها، فإنَّ العام 1936 هو قبل كل شيء مناسبة لقصة حب رائعة، والتي تضيء أكثر فأكثر في ذاكرتها المتذبذبة لأنها مصحوبة بوحي سياسي وتحرري بفضل شقيقها، خوزيه، الذي تبنى الأفكار الأناركية، والتي دفعته في حماسه التحرري نحو المدينة الكبيرة للانضمام إلى جبهة سرقسطة التي يسيطر عليها دوروتي.
إنَّ الأكثر صعوبة هو خيبة الأمل، والعودة إلى القرية: فبالنسبة إلى مونتسي، كان الحمل الذي يجب إخفاؤه؛ وبالنسبة إلى خوزيه، خيبة الأمل في عدم النجاح في فرض مبادئ الإدارة الذاتية على الفلاحين الأراغونيين المرتبطين أيضًا بالأرض والمحاصيل لتحرير أنفسهم من الإقطاع الذي يضطهدهم؛ وبالنسبة لدييغو ابن دون خايمي الاقطاعي المحلي، الشخصية التي تعذبها غيرته تجاه خوسيه، هو اختياره الشيوعية الستالينية. النتيجة وضعت الفرانكويين والشيوعيين والفوضويين في مواجهة
دامية.